فصل: رابعاً: مفارقة جماعة المسلمين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مُغَالاة

التّعريف

1 - المغالاة في اللغة‏:‏ المبالغة في الشّيء‏,‏ ومجاوزة الحدّ فيه‏.‏

يقال‏:‏ غالى بالشّيء‏:‏ اشتراه بثمن غالٍ‏,‏ ويقال‏:‏ غاليت صداق المرأة‏:‏ أي أغليته‏,‏ ومنه قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ألا لا تغالوا في صدقات النّساء ‏"‏‏,‏ وأصل الغلاء‏:‏ الارتفاع ومجاوزة القدر في كلّ شيءٍ‏.‏

ولا يخرج المعنى في الاصطلاح عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الرخص‏:‏

2 - الرخص في اللغة‏:‏ ضد الغلاء‏,‏ من رُخص الشّيء رُخْصاً فهو رخيص من باب قرب، يقال‏:‏ أرخص اللّه السّعر‏,‏ ويتعدّى بالهمزة وبالتّضعيف‏.‏

وارتخصت الشّيء‏:‏ اشتريته رخيصاً‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المغالاة والرخص هي التّضاد‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمغالاة

تتعلّق بالمغالاة أحكام منها‏:‏

المغالاة في المهر

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّه ليس للمهر حد أعلى مقدّر‏,‏ فحينما أراد عمر رضي الله عنه تحديد المهور‏,‏ نهى أن يزاد في الصّداق على أربعمائة درهمٍ‏,‏ وخطب النّاس فيه فقال‏:‏ ألا لا تغالوا في صداق النّساء فإنّه لا يبلغني عن أحدٍ ساق أكثر من شيءٍ ساقه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو سيق له إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال ثمّ نزل فعرضت له امرأة من قريشٍ، فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين، أكتاب اللّه أحق أن يتّبع أو قولك‏؟‏ قال بل كتاب اللّه، فما ذاك‏؟‏ قالت‏:‏ نهيت النّاس آنفاً أن يغالوا في صداق النّساء، واللّه تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً‏}‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ كل أحدٍ أفقه من عمر، مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ رجع إلى المنبر فقال للنّاس‏:‏ إنّي كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النّساء ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له‏.‏

ومع ذلك فقد صرّح المالكيّة بكراهة المغالاة في المهور‏,‏ بمعنى ما خرجت بها عن عادة أمثالها‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يسن تخفيف الصّداق وعدم المغالاة في المهور‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها»‏.‏ ولما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خيرهنّ أيسرهنّ صداقاً» ففي هذين الحديثين دليل على أفضليّة النّكاح مع قلّة المهر‏,‏ وأنّ الزّواج بمهر قليلٍ مندوب ومرغوب إليه، لأنّ المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب النّكاح من يريده‏,‏ فيكثر الزّواج المرغوب فيه‏,‏ ويقدر عليه الفقراء‏,‏ ويكثر النّسل الّذي هو أهم مطالب النّكاح‏,‏ بخلاف ما إذا كان المهر كثيراً‏,‏ فإنّه لا يتمكّن منه إلا أرباب الأموال‏,‏ فيكون الفقراء - الّذين هم الأكثر في الغالب - غير مزوّجين‏,‏ فلا تحصل المكاثرة الّتي أرشد إليها النّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الشّافعي رضي الله عنه‏:‏ والاقتصاد في الصّداق أحب إلينا‏.‏

المغالاة في الكفن

4 - اتّفق الفقهاء على أنّه تكره المغالاة في الكفن‏,‏ لما روى علي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تغالوا في الكفن فإنّه يُسلب سلباً سريعاً»‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ المراد بالمغالاة في الكفن الزّيادة على كفن المثل‏.‏

وقال النّووي‏:‏ يستحب تحسين الكفن‏,‏ قال أصحابنا‏:‏ والمراد بتحسينه بياضه ونظافته وسبوغه وكثافته لا كونه ثميناً‏,‏ لحديث النّهي عن المغالاة المتقدّم‏.‏

وقال القاضي حسين والبغوي‏:‏ الثّوب الغسيل أفضل من الجديد‏,‏ ودليله حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ نظر أبو بكرٍ رضي الله عنه إلى ثوبٍ كان يمرّض فيه‏,‏ فقال‏:‏ اغسلوا هذا وزيدوا عليه ثوبين وكفّنوني فيها، قلت‏:‏ إنّ هذا خلق، قال‏:‏ الحي أحق بالجديد من الميّت‏.‏

وهذا كله يدل على رخص الكفن‏.‏

المغالاة في العبادة

5 - ينبغي أن يقتصد المسلم في طاعة اللّه‏,‏ وأن يكون وسطاً بين الغلوّ والتّفريط في عبادة اللّه‏,‏ ولا يكلّف نفسه بما لا يطيق‏,‏ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إيّاكم والغلوّ في الدّين»‏,‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه خبر الثّلاثة الّذين قال أحدهم‏:‏ إنّي لا أتزوّج النّساء‏,‏ وقال الثّاني‏:‏ أصوم ولا أفطر‏,‏ وقال الثّالث‏:‏ أقوم ولا أنام، خطب وقال‏:‏ «ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا، إنّي أصلّي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»‏.‏

وعن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال‏:‏ من هذه‏؟‏ قالت‏:‏ فلانة تذكر من صلاتها، قال‏:‏ مه عليكم بما تطيقون، فواللّه لا يَمَلُّ اللّه حتّى تملوا، وكان أحب الدّين إليه ما دام صاحبه عليه»، فالأفضل للإنسان أن لا يجهد نفسه بالطّاعة وكثرة العمل‏,‏ وأن لا يغلو في الدّين فإنّه إذا فعل هذا ملّ‏,‏ ثمّ ترك‏,‏ وكونه يبقى على العمل ولو قليلاً مستمراً عليه أفضل‏.‏

مَغْرُور

انظر‏:‏ غرر‏.‏

مغَلْصَمة

انظر‏:‏ ذبائح‏.‏

مُفَاخَذَة

التّعريف

1 - المفاخذة في اللغة‏:‏ مفاعلة، يقال‏:‏ فاخذ المرأة مفاخذةً‏:‏ إذا جلس بين فخذيها أو فوقهما كجلوس المجامع‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمفاخذة

مفاخذة الزّوجة وغيرها

2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ مفاخذة الرّجل زوجته في غير الإحرام أو الحيض والنّفاس حلال بحائل أو بغير حائلٍ‏.‏

أما مفاخذة غير الزّوجة من المرأة الأجنبيّة ونحوها فحرام‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏أجنبي ف 11 وما بعدها‏,‏ فخذ ف 3‏)‏‏.‏

المفاخذة في الحجّ

3 - نصّ الشّافعيّة على أنّه تحرم المفاخذة في الحجّ بشروط هي‏:‏

أن يكون الشّخص عامداً‏,‏ عالماً بالحكم‏,‏ وأن تكون المفاخذة بشهوة وبلا حائلٍ‏,‏ ولو كان بعد التّحلل الأوّل‏,‏ أنزل أو لم ينزل‏.‏

وأمّا الموجب فإن كانت المفاخذة قبل التّحلل الأوّل في الحجّ وقبل الحلق في العمرة ففيها الفدية‏,‏ ولا يفسد النسك بها مطلقاً وإن أنزل‏,‏ ومتى انتفى شرط من ذلك فلا حرمة ولا فدية‏.‏

وأمّا جمهور الفقهاء فلم ينصوا على المفاخذة إلا أنّهم قالوا‏:‏ يجب على المحرم أن يتجنّب مقدّمات الجماع ودواعيه من التّقبيل‏,‏ واللّمس بشهوة‏,‏ والمباشرة‏.‏

أثر المفاخذة في الصّوم

4 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المفاخذة في نهار رمضان تبطل صوم الصّائم إن أنزل وعليه القضاء‏,‏ ولا تبطل الصّوم إذا لم ينزل‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا تجب الكفّارة بالمباشرة فيما دون الفرج‏,‏ من مفاخذةٍ وغيرها‏,‏ في نهار رمضان إذا أنزل‏,‏ لأنّه أفطر بغير جماعٍ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ تجب الكفّارة في رمضان على من أفطر بإخراج منيٍّ بمباشرة أو غيرها‏.‏

حكم المفاخذة بالنّسبة للمصاهرة

5 - نصّ الشّافعيّة على أثر المفاخذة في المصاهرة‏,‏ فقال النّووي‏:‏ في ثبوت المصاهرة بالمفاخذة وتحريم الرّبيبة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نعم‏,‏ وهو الأظهر عند البغويّ والروياني‏.‏

والثّاني‏:‏ لا‏,‏ وهو الأظهر عند ابن أبي هريرة وابن القطّان وغيرهم‏,‏ قال‏:‏ والقولان فيما إذا جرى ذلك بشهوة‏,‏ فأمّا بغير شهوةٍ فلا أثر له على المذهب‏,‏ وبه قطع الجمهور‏.‏

أثر المفاخذة في حدّ الزّنا

6 - نصّ الشّافعيّة على أنّه لا حدّ بمفاخذةٍ ونحوها من مقدّمات الجماع ممّا لا إيلاج فيه كسحاق‏,‏ بل يعزّران‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏تعزير ف 36‏)‏‏.‏

مُفَارَقة

التّعريف

1 - المفارقة في اللغة‏:‏ مصدر الفعل فارق ومادّته‏:‏ فرّق‏,‏ يقال‏:‏ فرّق بين الشّيئين فرقاً وفرقاناً‏:‏ إذا فصل وميّز أحدهما عن الآخر وفارقه مفارقةً وفرقاً‏:‏ باعده‏,‏ وتفارق القوم‏:‏ فارق بعضهم بعضاً‏,‏ وفارق فلان امرأته مفارقةً‏:‏ باينها‏,‏ والتّفرق والافتراق سواء‏,‏ وفي الحديث‏:‏ «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا»‏.‏

والفراق‏:‏ الفرقة وأكثر ما تكون بالأبدان‏,‏ ويكون بالأقوال مجازاً‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المتاركة‏:‏

2 - المتاركة في اللغة‏:‏ يقال‏:‏ ترك الشّيء‏:‏ خلاه‏,‏ وتركت الشّيء‏:‏ خلّيته‏,‏ وتاركته البيع متاركةً أي صالحته على تركه‏,‏ وتركت الرّجل‏:‏ فارقت ثمّ استعير للإسقاط في المعاني فقيل‏:‏ ترك حقّه إذا أسقطه‏,‏ وترك ركعةً من الصّلاة‏:‏ إذا لم يأت بها‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

وعلى هذا فالمتاركة أعم من المفارقة‏.‏

ب - المجاوزة‏:‏

3 - المجاوزة في اللغة‏:‏ يقال جاوزت الموضع جوازاً ومجاوزةً بمعنى جزته‏,‏ وجاوزت الشّيء إلى غيره وتجاوزته تعدّيته‏,‏ وتجاوزت عن المسيء‏:‏ عفوت عنه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والمجاوزة أعم من المفارقة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمفارقة

تتعلّق بالمفارقة أحكام منها‏:‏

أوّلاً‏:‏ المفارقة في العبادات

المفارقة في صلاة الجماعة‏:‏

المراد بالمفارقة في صلاة الجماعة ترك أحد المصلّين صلاة الجماعة‏,‏ وهذه المفارقة قد تكون ممتنعةً‏,‏ وقد تكون جائزةً‏,‏ وقد تكون واجبةً‏,‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

امتناع مفارقة المأموم صلاة الجماعة بدون عذرٍ‏:‏

4 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في القديم إلى أنّه لا يجوز أن يفارق المقتدي إمامه بدون عذرٍ فلا ينتقل من في جماعةٍ إلى الانفراد‏,‏ لأنّ المأموميّة تلزم بالشروع‏,‏ وإن لم تجب ابتداءً كما يقول المالكيّة‏,‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه»‏,‏ ولأنّه ترك متابعة إمامه وانتقل من الأعلى للأدنى بغير عذرٍ أشبه ما لو نقلها إلى النّفل‏.‏

وإذا انتقل المأموم من الجماعة إلى الانفراد بدون عذرٍ بطلت صلاته عند الحنفيّة والمالكيّة وفي أصحّ الرّوايتين عند الحنابلة وفي القول القديم للشّافعيّة‏,‏ لأنّه من ترك المتابعة بغير عذرٍ أشبه ما لو تركها من غير نيّة المفارقة‏.‏

ولأنّه كما يقول الشّافعيّة في القديم التزم القدوة في كلّ صلاته وفيه إبطال العمل‏,‏ وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَََلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏.‏

والمذهب عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية عند الحنابلة أنّ الصّلاة صحيحة لكن مع الكراهة عند الشّافعيّة - أي كراهة المفارقة -‏,‏ واستدلّ الشّافعيّة على صحّة صلاة المأموم مع المفارقة بأنّ صلاة الجماعة إمّا سنّة على قولٍ والسنن لا تلزم بالشروع إلا في الحجّ والعمرة‏,‏ وإمّا فرض كفايةٍ على الصّحيح فكذلك إلا في الجهاد وصلاة الجنازة والحجّ والعمرة‏,‏ ولأنّ الفرقة الأولى فارقت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذات الرّقاع‏,‏ وعلّل الحنابلة الصّحّة - كما قال ابن قدامة - بأنّ المنفرد لو نوى كونه مأموماً لصحّ في روايةٍ‏.‏ فنيّة الانفراد أولى‏,‏ فإنّ المأموم قد يصير منفرداً بغير نيّةٍ وهو المسبوق إذا سلّم إمامه‏,‏ وغيره لا يصير مأموماً بغير نيّةٍ بحال‏.‏

جواز مفارقة المأموم صلاة الجماعة بعذر‏:‏

5 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه يجوز للمأموم أن يفارق صلاة الجماعة وينوي الانفراد إذا كان ذلك لعذر‏,‏ ولم يجز الحنفيّة المفارقة مطلقاً ولو بعذر‏.‏

واستدلّ القائلون بجواز المفارقة بما رواه جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «كان معاذ بن جبلٍ يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء ثمّ يرجع إلى قومه بني سلمة فيصلّيها بهم، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخّر العشاء ذات ليلةٍ فصلاها معاذ معه ثمّ رجع فأمّ قومه، فافتتح بسورة البقرة فتنحّى رجل من خلفه فصلّى وحده فلمّا انصرف قالوا‏:‏ نافقت يا فلان، فقال‏:‏ ما نافقت ولكنّي آتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنّك أخّرت العشاء البارحة وإنّ معاذاً صلاها معك ثمّ رجع فأمّنا فافتتح سورة البقرة فتنحّيت فصلّيت وحدي وإنّما نحن أهل نواضح نعمل بأيدينا، فالتفت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى معاذٍ فقال‏:‏ أفتّان أنت يا معاذ‏؟‏ أفتّان أنت‏؟‏ اقرأ بسبّح اسم ربّك الأعلى، والسّماء والطّارق، والسّماء ذات البروج، والشّمس وضحاها، واللّيل إذا يغشى ونحوها»‏,‏ ولم يأمر النّبي صلى الله عليه وسلم الرّجل بالإعادة ولا أنكر عليه فعله‏.‏

غير أنّهم اختلفوا في الأعذار الّتي تجوز معها المفارقة‏,‏ فمن الأعذار الّتي تجيز مفارقة الإمام تطويل الإمام في الصّلاة طولاً لا يصبر معه المأموم لضعف أو شغلٍ ففي هذه الحالة يجوز للمأموم أن يفارق الإمام وينوي الانفراد ويتمّ صلاته منفرداً لما سبق في قصّة معاذٍ رضي اللّه تعالى عنه‏.‏

وهذا العذر متّفق عليه بين المالكيّة والحنابلة وفي الصّحيح عند الشّافعيّة‏.‏

وزاد الشّافعيّة من الأعذار الّتي يجوز للمأموم أن يفارق إمامه في الصّلاة أن يترك الإمام سنّةً مقصودةً كالتّشهد الأوّل أو القنوت فله فراقه ليأتي بتلك السنّة‏.‏

واعتبر إمام الحرمين أنّ الأعذار الّتي يجوز معها ترك الجماعة ابتداءً تجوز معها المفارقة أثناء الصّلاة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ من أحرم مأموماً ثمّ نوى الانفراد لعذر يبيح ترك الجماعة كتطويل إمامٍ وكمرض وكغلبة نعاسٍ أو غلبة شيءٍ يفسد صلاته كمدافعة أحد الأخبثين أو خوفٍ على أهلٍ أو مالٍ أو خوف فوت رفقةٍ أو خرج من الصّفّ مغلوباً لشدّة زحامٍ ولم يجد من يقف معه ونحو ذلك من الأعذار صحّ انفراده فيتم صلاته منفرداً لحديث جابرٍ رضي اللّه تعالى عنه في قصّة معاذٍ رضي اللّه تعالى عنه، قالوا‏:‏ ومحل إباحة المفارقة لعذر إن استفاد من فارق لتدارك شيءٍ يخشى فواته أو غلبة نعاسٍ أو خوف ضررٍ ونحوه بمفارقة إمامه تعجيل لحوقه قبل فراغ إمامه من صلاته ليحصل مقصوده من المفارقة فإن كان الإمام يعجل ولا يتميّز انفراده عنه بنوع تعجيلٍ لم يجز له الانفراد لعدم الفائدة فيه‏,‏ وأمّا من عذره الخروج من الصّفّ فله المفارقة مطلقاً لأنّ عذره خوف الفساد بالفَذِّية وذلك لا يتدارك بالسرعة‏,‏ وفصّل الحنابلة فيما إذا نوى المأموم المفارقة فقالوا‏:‏ وإذا فارق المأموم الإمام لعذر ممّا تقدّم في قيامٍ قبل قراءة الإمام الفاتحة قرأ المأموم لنفسه لصيرورته منفرداً قبل سقوط فرض القراءة عنه بقراءة الإمام‏,‏ وإن فارقه بعد قراءة الفاتحة فله الركوع في الحال لأنّ قراءة الإمام قراءة للمأموم‏,‏ وإن فارقه في أثناء القراءة فإنّه يكمّل ما بقي من الفاتحة‏.‏

وإن كان في صلاة سرٍّ كظهر وعصرٍ‏,‏ أو في الأخيرتين من العشاء مثلاً وفارق الإمام لعذر بعد قيامه وظنّ أنّ إمامه قرأ لم يقرأ‏,‏ أي لم تلزمه القراءة إقامةً للظّنّ مقام اليقين‏,‏ قال البهوتي‏:‏ الاحتياط القراءة‏.‏

وجوب المفارقة‏:‏

من الأحوال الّتي يجب فيها على المأموم مفارقة صلاة الجماعة ما يلي‏:‏

أ - انحراف الإمام عن القبلة‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا انحرف الإمام عن القبلة فإنّه يجب على المأموم مفارقته ويصلّي منفرداً‏.‏

ولو اجتهد اثنان في القبلة واتّفق اجتهادهما وصلّى أحدهما بالآخر وتغيّر اجتهاد أحدهما لزمه الانحراف إلى الجهة الّتي تغيّر اجتهاده إليها لأنّها ترجّحت في ظنّه فتعيّنت عليه وأتمّ صلاته وينوي المأموم الّذي ائتمّ بالآخر مفارقة إمامه للعذر المانع له من اقتدائه به وهو التّغير‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ والمقتدي إذا ظهر له وهو وراء الإمام أنّ القبلة غير الجهة الّتي يصلّي إليها الإمام لا يمكنه إصلاح صلاته لأنّه إذا استدار خالف إمامه في الجهة قصداً وهو يفسد وإلا كان متماً صلاته إلى ما هو غير القبلة عنده وهو مفسد أيضاً‏.‏

ب - تلبس الإمام بما يبطل صلاته‏:‏

7 - لو رأى المأموم في أثناء الصّلاة الإمام متلبّساً بما يبطل الصّلاة كأن رأى على ثوبه أو بدنه نجاسةً أو تبيّن أنّ الإمام محدث أو جنب فإنّه يجب على المأموم مفارقته ويتم صلاته منفرداً بانياً على ما صلّى مع الإمام‏,‏ وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة في الجملة‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ إن علم المأموم حدث إمامه في الصّلاة ولم يستمرّ معه بل فارقه وصلّى لنفسه منفرداً أو مستخلفاً فتصح للمأمومين‏,‏ ومفهومه أنّه لو علم بحدث إمامه في الصّلاة واستمرّ معه بطلت عليهم‏.‏

وقالوا‏:‏ لو رأى المأموم نجاسةً على إمامه وأراه إيّاها فوراً واستخلف الإمام من حين ذلك فتبطل صلاة الإمام دون المأمومين واختار ابن ناجي البطلان للجميع‏,‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إن استمرّ المأموم في هذه الحالة على المتابعة لحظةً أو لم ينو المفارقة بطلت صلاته بالاتّفاق - أي اتّفاق فقهاء الشّافعيّة - لأنّه صلّى بعض صلاته خلف محدثٍ مع علمه بحدثه‏,‏ وممّن صرّح ببطلان صلاته إذا لم ينو المفارقة ولم يتابعه في الأفعال الشّيخ أبو حامدٍ والقاضي أبو الطّيّب في تعليقهما والمحاملي وخلائق من كبار الأصحاب‏,‏ وسواء كان الإمام عالماً بحدث نفسه أم لا‏,‏ لأنّه لا تفريط من المأموم في الحالين‏,‏ وهذا هو المذهب وبه قطع الجمهور كما قال النّووي‏.‏

وقال الشّافعيّة أيضاً‏:‏ لو كان المأموم قارئاً وكان الإمام أمّياً‏,‏ أو كان الإمام قد قام إلى ركعةٍ خامسةٍ أو أتى الإمام بمنافٍ غير ذلك فإنّه يجب على المأموم مفارقته ويتم صلاته منفرداً بانياً على ما صلّى مع الإمام‏.‏

والأصح عند الشّافعيّة أنّ التّنحنح إن ظهر منه حرفان يبطل الصّلاة‏,‏ واختلفوا فيما لو تنحنح الإمام فبان منه حرفان هل يجب على المأموم مفارقته أم لا‏؟‏ فالمذهب أنّه لا يفارقه حملاً على العذر‏,‏ لأنّ الظّاهر تحرز الإمام عن المبطل والأصل بقاء العبادة‏,‏ لكن قال السبكي‏:‏ إن دلّت قرينة حال الإمام على خلاف ذلك وجبت المفارقة‏,‏ ولو لحن الإمام في الفاتحة لحناً يغيّر المعنى وجبت مفارقته‏,‏ كما لو ترك واجباً‏,‏ ولكن هل يفارقه في الحال أو حتّى يركع لجواز أنّه لحن ساهياً‏,‏ وقد يتذكّر فيعيد الفاتحة‏؟‏ الأقرب الأوّل - أي المفارقة في الحال - لأنّه لا يجوز متابعته في فعل السّهو كما قال الزّركشي وقال الخطيب الشّربيني‏:‏ بل الأقرب الثّاني - أي لا يفارقه حتّى يركع - لأنّ إمامه لو سجد قبل ركوعه لم تجب مفارقته في الحال‏.‏

ولا تصح الصّلاة وراء السّكران لأنّه محدث‏,‏ قال الشّافعي والأصحاب‏:‏ فإن شرب الخمر وغسل فاه وما أصابه وصلّى قبل أن يسكر صحّت صلاته والاقتداء به‏,‏ فلو سكر في أثناء الصّلاة بطلت صلاته ويجب على المأموم مفارقته ويبني على صلاته‏,‏ فإن لم يفارقه وتابع معه بطلت صلاته‏.‏

وقال ابن عقيلٍ من الحنابلة‏:‏ إن عجز الإمام عن إتمام الفاتحة في أثناء الصّلاة صحّت صلاة الأمّيّ خلفه لمساواته له‏,‏ أمّا القارئ فإنّه يفارق الإمام للعذر ويتم لنفسه لأنّه لا يصح ائتمام القارئ بالأمّيّ‏,‏ ولكن قال الموفّق‏:‏ الصّحيح أنّه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة تفسد صلاته لأنّه قادر على الصّلاة بقراءتها فلم تصحّ صلاته لعموم قوله‏:‏ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»‏,‏ وإن استخلف الإمام الّذي عجز عن إتمام الفاتحة في أثناء الصّلاة من يتم بهم صلاتهم وصلّى معهم جاز‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا قام الإمام لركعة زائدةٍ ونبّهه المأمومون فلم يرجع وجبت مفارقته وبطلت صلاته لتعمده ترك ما وجب عليه‏,‏ ويسلّم المأموم المفارق لإمامه بعد قيامه لزائدة وتنبيهه وإبائه الرجوع وذلك إذا أتمّ التّشهد الأخير‏.‏

أمّا إن ترك الإمام التّشهد الأوّل مع الجلوس له وقام لزم رجوعه إذا لم يستتمّ قائماً‏,‏ فإن استتمّ قائماً كره رجوعه‏,‏ ويحرم رجوعه إن شرع في القراءة أمّا المأموم فالمتّجه أن يفارق إمامه ويتمّ صلاته لنفسه ويسلّم على قولٍ‏,‏ والمنصوص أنّ المأموم إذا سبّح لإمامه قبل أن يعتدل فلم يرجع تشهّد لنفسه وتبعه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا تبطل صلاة الجماعة بقطع صفٍّ من صفوفها سواء كان وراء الإمام أو عن يمينه لكن لو كان الصّف الّذي انقطع عن يسار الإمام وبَعُد بقدر مقام ثلاثة رجالٍ فتبطل صلاة هذا الصّفّ المنقطع وهذا ما لم تنو الطّائفة المنقطعة مفارقة الإمام‏,‏ فإن نوت مفارقته صحّت صلاتها‏.‏

المفارقة في صلاة الجمعة‏:‏

8 - أجاز الشّافعيّة والحنابلة للمأموم أن يفارق الجماعة في الرّكعة الثّانية من صلاة الجمعة‏.‏

جاء في مغني المحتاج‏:‏ لا يجوز قطع الجماعة في الرّكعة الأولى من صلاة الجمعة‏,‏ لأنّ الجماعة في الرّكعة الأولى منها شرط وأمّا في الرّكعة الثّانية فليست بشرط فيها خلافاً لما في الكفاية من عدم الجواز‏,‏ ولو تعطّلت الجماعة بخروجه وقلنا بأنّها فرض كفايةٍ فينبغي كما قاله بعض المتأخّرين عدم الخروج منها‏,‏ لأنّ فرض الكفاية إذا انحصر في شخصٍ تعيّن عليه‏.‏

وفي المجموع‏:‏ إذا صلّى المأموم ركعةً من صلاة الجمعة ثمّ فارق إمامه بعذر أو بغيره وقلنا لا تبطل صلاته بالمفارقة أتمّها جمعةً كما لو أحدث الإمام وهذا لا خلاف فيه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن فارق المأموم الجماعة لعذر في الرّكعة الثّانية من صلاة الجمعة وقد أدرك الرّكعة الأولى مع الإمام فإنّه يتمها جمعةً‏,‏ لأنّ الجمعة تدرك بركعة‏,‏ وقد أدركها مع الإمام‏,‏ فإن فارقه في الرّكعة الأولى من الجمعة فكمزحوم فيها حتّى تفوته ركعتان فيتمّها نفلاً ثمّ يصلّي الظهر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز الانفراد في صلاة الجمعة لأنّ الجماعة شرط فيها‏.‏

شرط مفارقة البنيان في قصر صلاة المسافر‏:‏

9 - يجوز للمسافر قصر الصّلاة الرباعيّة‏,‏ لكن يشترط للتّرخص برخصة القصر أن يفارق المسافر محلّ إقامته ويتحقّق ذلك بمفارقته بيوت المكان الّذي يخرج منه وتوابع البيوت أيضاً‏.‏

وذلك لما روى أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وصلّيت معه العصر بذي الحليفة ركعتين»‏,‏ وروي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه لمّا خرج إلى البصرة رأى خصاً أمامه فقال‏:‏ لولا هذا الخص لصلّينا ركعتين‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة المسافر ف 22‏)‏‏.‏

المفارقة في صلاة الخوف‏:‏

10 - من صور صلاة الخوف أنّ الإمام يفرّق الجيش فرقتين‏,‏ فرقة تجعل في مواجهة العدوّ‏,‏ ويصلّي الإمام بالفرقة الثّانية من الجيش فإذا قام الإمام إلى الرّكعة الثّانية في الثنائيّة وإلى الرّكعة الثّالثة في الثلاثيّة أو الرباعيّة فارقه المأمومون ولا يتابعونه بل يتمون الصّلاة لأنفسهم ثمّ يذهبون إلى وجه العدوّ وتأتي الفرقة الحارسة فيصلّي بهم الإمام ما بقي من صلاته فإذا جلس للتّشهد قاموا وأتموا صلاتهم والإمام ينتظرهم ليسلّم بهم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة الخوف ف 6‏)‏‏.‏

شرط مفارقة البنيان في فطر المسافر‏:‏

11 - اتّفق الفقهاء على أنّ المسافر الّذي يريد التّرخص برخصة الفطر في رمضان لا يجوز له الفطر إلا بعد مفارقة عمران البلد الّذي يسافر منه‏.‏

كما اتّفقوا على أنّه لو سافر وفارق عمران البلد قبل الفجر جاز له الفطر في هذا اليوم‏.‏ ولكنّهم اختلفوا فيما لو سافر وفارق عمران البلد بعد الفجر هل يجوز له الفطر في ذلك اليوم أم لا‏؟‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو مذهب الشّافعيّ المعروف من نصوصه كما قال النّووي وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنّ من سافر وفارق العمران بعد طلوع الفجر لا يجوز له الفطر في ذلك اليوم‏,‏ وهو قول مكحولٍ والزهريّ ويحيى الأنصاريّ والأوزاعيّ لأنّ الصّوم عبادة تختلف بالسّفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر ويعتبر في هذا اليوم مقيماً فلزمه الصّوم فلا يبطله باختباره ولذلك لو جامع فيه فعليه القضاء والكفّارة‏.‏

والرّواية الثّانية عن الإمام أحمد أنّ له أن يفطر في ذلك اليوم وهو قول عمرو بن شرحبيل والشّعبيّ وإسحاق وابن المنذر لما روى عبيد بن جبيرٍ قال‏:‏ كنت مع أبي بصرة الغفاريّ صاحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفينةٍ من الفسطاط في رمضان فرفع ثمّ قرّب غداه قال جعفر في حديثه فلم يجاوز البيوت حتّى دعا بالسفرة ثمّ قال‏:‏ اقترب، قلت‏:‏ ألست ترى البيوت‏؟‏ قال أبو بصرة أترغب عن سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ - قال جعفر في حديثه - فأكل‏.‏

ولأنّ السّفر معنىً لو وجد ليلاً واستمرّ في النّهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه‏.‏

ثانياً‏:‏ المفارقة في العقود

أثر المفارقة في لزوم العقد‏:‏

لمفارقة المتعاقدين أثر في لزوم بعض العقود ومن ذلك‏:‏

مفارقة المتبايعين مجلس العقد‏:‏

12 - من أسباب لزوم البيع بعد انعقاده بالإيجاب والقبول أحد أمرين‏:‏ إمّا التّخاير‏,‏ وهو أن يخيّر أحد المتبايعين صاحبه في إمضاء العقد أو إبطاله‏,‏ وأمّا مفارقة المتبايعين أو أحدهما مجلس العقد‏,‏ وكلامنا هنا في المفارقة إذا لم يوجد التّخاير‏,‏ فمفارقة المتبايعين مجلس العقد من أسباب لزوم العقد‏,‏ أمّا قبل المفارقة فإنّ عقد البيع يكون جائزاً ويثبت لكلّ واحدٍ من المتبايعين الخيار في فسخ العقد ما داما في المجلس ولم يفترقا وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة ويسمّى الخيار في فسخ العقد ما داما في المجلس‏:‏ خيار المجلس‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ يقع البيع جائزاً‏,‏ ولكلّ من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرّقا‏,‏ وهو قول أكثر أهل العلم‏,‏ يروى ذلك عن عمر وابن عمر وابن عبّاسٍ وأبي هريرة وأبي برزة رضي الله عنهم‏,‏ وبه قال سعيد بن المسيّب وشريح والشّعبي وعطاء وطاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئبٍ والشّافعي وإسحاق وأبو عبيدٍ وأبو ثورٍ واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا تبايع الرّجلان فكل واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرّقا وكانا جميعاً أو يخيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرّقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع»‏.‏

حكم مفارقة المتبايعين‏:‏

13 - اختلف الشّافعيّة والحنابلة في حكم مفارقة المتبايعين أو أحدهما مجلس العقد وسبب اختلافهما هو ما رواه عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، إلا أن تكون صفقة خيارٍ، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله»‏.‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ المفارقة جائزة لكلّ واحدٍ من المتعاقدين‏,‏ والحل الوارد في الحديث محمول على الإباحة المستوية الطّرفين‏.‏

وما ذهب إليه الشّافعيّة هو رواية عن الإمام أحمد‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ ذكر القاضي أنّ ظاهر كلام أحمد جواز مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه ودليل هذه الرّواية ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّه كان إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه‏.‏

أمّا الرّواية الثّانية عن الإمام أحمد فقد قال ابن قدامة‏:‏ ظاهر حديث عمرو بن شعيبٍ تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشيةً من فسخ البيع‏,‏ قال‏:‏ وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم‏,‏ فإنّه ذكر له فعل ابن عمر‏,‏ وحديث عمرو بن شعيبٍ فقال‏:‏ هذا الآن قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏,‏ وهنا اختيار أبي بكرٍ‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهذه الرّواية هي الأصح‏,‏ لأنّ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقدّم على فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما‏,‏ والظّاهر أنّ ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه لما خالفه‏.‏

كيفيّة المفارقة الّتي يلزم بها البيع‏:‏

14 - المفارقة الّتي يلزم بها البيع هي المفارقة بالأبدان لا بالأقوال وتختلف المفارقة باختلاف مكان العقد ويعتبر في ذلك العرف‏,‏ فما يعده النّاس تفرقاً يلزم به العقد وما لا فلا لأنّ ما ليس له حد شرعاً ولا لغةً يرجع فيه إلى العرف فإن كانا في دارٍ كبيرةٍ فبالخروج من البيت إلى الصّحن أو من الصّحن إلى الصفّة أو البيت‏,‏ وإن كانا في سوقٍ أو صحراء أو في بيتٍ متفاحش السّعة فبأن يولّي أحدهما الآخر ظهره ويمشي قليلاً‏.‏

قال الشّربيني الخطيب ولو لم يبعد عن سماع خطابه‏,‏ وقال البهوتي‏:‏ ولو لم يبعد عنه بحيث لا يسمع كلامه في العادة خلافاً للإقناع‏.‏

وإن كانا في سفينةٍ أو دارٍ صغيرةٍ أو مسجدٍ صغيرٍ فبخروج أحدهما منه أو صعوده السّطح ولا يحصل التّفرق بإقامة سترٍ ولو ببناء جدارٍ بينهما‏,‏ لأنّ المجلس باقٍ‏.‏

وقيل لا تكون المفارقة إلا بأن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلّمه على العادة من غير رفع الصّوت لم يسمع كلامه وهو ما ذهب إليه الإصطخريّ والشّيرازي والقاضي أبو الطّيّب من الشّافعيّة‏,‏ قال النّووي‏:‏ والمذهب الأوّل وبه قطع الجمهور - أي جمهور الشّافعيّة - ونقله المتولّي والروياني عن جميع الأصحاب سوى الإصطخريّ واستدلّ لذلك بما ورد عن ابن عمر فقد قال نافع‏:‏ كان ابن عمر إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثمّ رجع إليه‏.‏

وسئل الإمام أحمد عن تفرقة الأبدان فقال‏:‏ إذا أخذ هذا كذا وهذا كذا فقد تفرّقا‏.‏

قال النّووي‏:‏ وحكى القاضي أبو الطّيّب والروياني وجهاً أنّه يكفي أن يولّيه ظهره‏,‏ ونقله الروياني عن ظاهر النّصّ لكنّه مؤوّل‏.‏

ولو فارق أحدهما مجلسه دون الآخر لم ينقطع خيار الآخر خلافاً لبعض المتأخّرين‏,‏ وقال البهوتي‏:‏ وإذا فارق أحدهما صاحبه لزم البيع سواء قصد بالمفارقة لزوم البيع أو قصد حاجةً أخرى لحديث ابن عمر السّابق‏.‏

واختلف في الإكراه على المفارقة هل يبطل به الخيار ويلزم البيع أم لا‏؟‏ قال ابن قدامة‏:‏ إن فارق أحدهما الآخر مكرهاً احتمل بطلان الخيار لوجود غايته وهو التّفرق‏,‏ ولأنّه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه‏.‏

وقال الشّافعيّة والقاضي في الحنابلة‏:‏ لا ينقطع الخيار‏,‏ لأنّه حكم علّق على التّفرق فلم يثبت مع الإكراه‏,‏ فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خيار صاحبه كما لو هرب منه وفارقه بغير رضاه ويكون الخيار للمكره منهما في المجلس الّذي يزول عنه فيه الإكراه حتّى يفارقه‏,‏ وإن أكرها جميعاً على المفارقة انقطع خيارهما‏,‏ لأنّ كلّ واحدٍ منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه‏.‏

ومن صور الإكراه ما لو تفرّقا مع فزعٍ من مخوفٍ كسبع أو ظالمٍ خشياه فهربا منه أو تفرّقا مع إلجاءٍ كتفرق بسيل أو نارٍ أو نحوهما أو تفرّقا مع حملٍ لهما لأنّ فعل المكره والملجأ كعدمه فيستمر خيارهما إلى أن يتفرّقا من مجلسٍ زال فيه إكراه أو إلجاء‏.‏

وقال الشّافعيّة فيما نقله النّووي‏:‏ لو هرب أحد العاقدين ولم يتبعه الآخر فقد أطلق الأكثرون أنّه ينقطع خيارهما‏,‏ وجزم به الفوراني والمتولّي وصاحبا العدّة والبيان وغيرهم‏,‏ وقال البغويّ والرّافعي‏:‏ إن لم يتبعه الآخر مع التّمكن بطل خيارهما‏,‏ وإن لم يتمكّن بطل خيار الهارب دون الآخر‏,‏ قال النّووي‏:‏ والصّحيح ما قدّمناه عن الأكثرين‏,‏ لأنّه متمكّن من الفسخ بالقول ولأنّه فارقه باختباره فأشبه إذا مشى على العادة‏,‏ فلو هرب وتبعه الآخر يدوم الخيار ما داما متقاربين‏,‏ فإن تباعدا بحيث يعد فرقةً بطل اختيارهما‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن هرب أحد المتبايعين من صاحبه‏,‏ بطل خيارهما ولزم العقد لأنّه فارقه باختياره ولا يقف لزوم العقد على رضاهما‏.‏

وأمّا أثر المفارقة بالموت أو الجنون ونحوه ففي إبطال خيار المجلس به خلاف ينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏خيار المجلس ف 13‏)‏‏.‏

ولو تنازع العاقدان في التّفرق بأن جاءا معاً وقال أحدهما‏:‏ تفرّقنا‏,‏ وأنكر الآخر صدّق النّافي بيمينه‏.‏

ولو اتّفقا على حصول التّفرق وتنازعا في الفسخ قبل التّفرق فقال أحدهما فسخت البيع قبل التّفرق وأنكر الآخر صدق النّافي بيمينه لأنّ الأصل دوام الاجتماع وعدم الفسخ ولو اتّفقا على عدم التّفرق وادّعى أحدهما الفسخ فدعواه الفسخ فسخ‏.‏

وما سبق من اعتبار المفارقة إنّما هو فيما إذا تولّى عقد البيع طرفان أمّا إذا تولّى العقد شخص واحد كالأب يبيع ماله لولده أو يبيع مال ولده لنفسه فهل لا بدّ من ثبوت الخيار واعتبار المفارقة سبباً للزوم العقد أم لا‏؟‏

للشّافعيّة والحنابلة في ذلك رأيان الأوّل‏:‏ ثبوت الخيار قال النّووي‏:‏ أصحهما ثبوته فعلى هذا يثبت خيار للولد وخيار للأب ويكون الأب نائب الولد‏,‏ فإن ألزم البيع لنفسه وللولد لزم‏,‏ وإن ألزم لنفسه بقي الخيار للولد فإذا فارق المجلس لزم العقد على الأصحّ من الوجهين عند الشّافعيّة‏,‏ قال الماورديّ وهذا قول أبي إسحاق المروزيّ وهو المذهب‏.‏ والرّأي الثّاني وهو الصّحيح من المذهب عند الحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ لا يلزم - أي البيع - إلا بالإلزام‏,‏ لأنّه لا يفارق نفسه وإن فارق المجلس‏,‏ قال الماورديّ‏:‏ وهذا قول جمهور أصحابنا‏,‏ قال‏:‏ وعلى هذا لا ينقطع الخيار إلا بأن يختار الأب لنفسه وللولد‏,‏ فإن لم يختر ثبت الخيار للولد إذا بلغ‏.‏

وقال البغويّ‏:‏ ولو كان العقد بينه وبين ولده صرفاً ففارق المجلس قبل القبض بطل العقد على الوجه الأوّل ولا يبطل على الثّاني إلا بالتّخاير‏.‏

اعتبار المفارقة في العقود الأخرى‏:‏

15 - كما تعتبر مفارقة مجلس العقد سبباً للزوم البيع فإنّها تعتبر سبباً للزوم بعض العقود الأخرى الّتي يثبت فيها خيار المجلس وهي عند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ الصّرف‏,‏ وبيع ربوي من مكيلٍ وموزونٍ بجنسه كبرّ ببرّ ونحوه‏,‏ والسّلم‏,‏ وصلح المعاوضة، وزاد الشّافعيّة‏:‏ التّولية‏,‏ والتّشريك‏,‏ وزاد الحنابلة الهبة الّتي فيها عوض معلوم‏,‏ والإجارة‏.‏

وذلك لعموم الخيرة ولأنّ موضوع الخيار النّظر في الأحظّ وهو موجود هنا‏,‏ وينظر تفصيل هذه العقود في مصطلحاتها‏.‏

المفارقة في النّكاح

تقع المفارقة في النّكاح لأسباب منها‏:‏

أوّلاً‏:‏ الجمع بين أكثر من أربع زوجاتٍ‏:‏

16 - لا يجوز للمسلم الحرّ أن يجمع بين أكثر من أربع زوجاتٍ في وقتٍ واحدٍ لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‏}‏‏,‏ فإذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع زوجاتٍ أسلمن معه وجب عليه مفارقة ما زاد على الأربع‏,‏ وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏

واستدلوا على ذلك بما رواه عبد اللّه بن عمر‏:‏ «أنّ غيلان بن سلمة أسلم وعنده تسع نسوةٍ فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يختار منهنّ أربعاً»‏.‏

وتختلف كيفيّة المفارقة بين من كان كافراً وكان في عصمته أكثر من أربع زوجاتٍ ثمّ أسلم وأسلمن معه‏,‏ وبين المسلم الّذي يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجاتٍ في وقتٍ واحدٍ‏.‏ فمن كان كافراً وأسلم وفي عصمته أكثر من أربع زوجاتٍ وأسلمن معه فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه لا يشترط فيمن يفارقهنّ أو يختارهنّ ترتب عقودهنّ فسواء تزوّجهنّ في عقدٍ واحدٍ أو عقودٍ متفرّقةٍ وسواء كان من فارقهنّ أو اختارهنّ أوائل في العقد أو أواخر‏,‏ ووجه ذلك كما قال الإمام الشّافعي والقرافي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم على أكثر من أربعٍ أن يفارق ما زاد على الأربع وأطلق الحكم ولم يستفصل عن كيفيّة نكاحهنّ‏,‏ وترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال منزّل منزلة العموم في المقال ولولا أنّ الحكم يعم الحالين لما أطلق ذلك‏.‏

وقد روى الشّافعي عن نوفل بن معاوية قال‏:‏ «أسلمت وتحتي خمس نسوةٍ فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ فارق واحدةً وأمسك أربعاً، فعمدت إلى أقدمهنّ عندي عاقرٍ منذ ستّين سنةً ففارقتها»‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ لو تزوّج كافر بخمس نسوةٍ ثمّ أسلم‏,‏ فإن كان تزوّجهنّ في عقدةٍ واحدةٍ فرّق بينه وبينهنّ جميعاً‏,‏ وإن كان تزوّجهنّ في عقودٍ متفرّقةٍ صحّ نكاح الأربع وبطل نكاح الخامسة، لأنّ الجمع محرّم على المسلم والكافر جميعاً، لأنّ حرمته ثبتت لمعنى معقولٍ وهو خوف الجور في إيفاء حقوقهنّ‏.‏

وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم والكافر إلا أنّه لا يتعرّض لأهل الذّمّة مع قيام الحرمة، لأنّ ذلك ديانتهم وهو غير مستثنىً من عهودهم وقد نهينا عن التّعرض لهم عن مثله بعد إعطاء الذّمّة وليس لنا التّعرض لأهل الحرب فإذا أسلم فقد زال المانع‏,‏ فلا يمكّن من استيفاء الجمع بعد الإسلام بين أكثر من أربعٍ‏,‏ فإذا كان تزوّج الخمس في عقدةٍ واحدةٍ فقد حصل نكاح كلّ واحدةٍ منهنّ جميعاً إذ ليست إحداهنّ بأولى من الأخرى والجمع محرّم وقد زال المانع من التّعرض فلا بدّ من الاعتراض بالتّفريق‏,‏ فأمّا إن كان تزوّجهنّ على التّرتيب في عقودٍ متفرّقةٍ فنكاح الأربع منهنّ وقع صحيحاً لأنّ الحرّ يملك التّزوج بأربع نسوةٍ مسلماً كان أو كافراً ولم يصحّ نكاح الخامسة لحصوله جمعاً فيفرّق بينهما بعد الإسلام‏.‏

وإذا تزوّج الحربي بأربع نسوةٍ ثمّ سُبي هو وسُبِين معه فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرّق بينه وبين الكلّ سواء تزوّجهنّ في عقدةٍ واحدةٍ أو في عقدٍ متفرّقةٍ‏,‏ لأنّ نكاح الأربع وقع صحيحاً‏,‏ لأنّه كان حراً وقت النّكاح‏,‏ والحر يملك التّزوج بأربع نسوةٍ مسلماً كان أو كافراً إلا أنّه تعذّر الاستيفاء بعد الاسترقاق لحصول الجمع من العبد في حال البقاء بين أكثر من اثنتين‏,‏ والعبد لا يملك الاستيفاء فيقع جمعاً بين الكلّ ففرّق بينه وبين الكلّ ولا يخيّر فيه كما إذا تزوّج رضيعتين فأرضعتهما امرأة بطل نكاحها ولا يخيّر كذا هذا‏,‏ وعند محمّدٍ يخيّر فيه فيختار اثنتين منهنّ كما يخيّر الحر في أربع نسوةٍ من نسائه ويفارق الباقي‏.‏

17 - ويوضّح ابن قدامة صفة المفارقة فيقول‏:‏ إن قال لمّا زاد على الأربع فسخت نكاحهنّ كان اختياراً للأربع‏,‏ وإن طلّق إحداهنّ كان اختياراً لها لأنّ الطّلاق لا يكون إلا في زوجةٍ‏,‏ وإن قال‏:‏ قد فارقت هؤلاء أو اخترت فراق هؤلاء‏,‏ فإن لم ينو الطّلاق كان اختياراً لغيرهنّ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغيلان‏:‏ «اختر منهنّ أربعاً وفارق سائرهنّ» وهذا يقتضي أن يكون لفظ الفراق صريحاً فيه كما كان لفظ الطّلاق صريحاً فيه‏,‏ وكذا في حديث فيروز الدّيلميّ قال‏:‏ «فعمدت إلى أقدمهنّ صحبةً ففارقتها»‏,‏ وهذا الموضع أخص بهذا اللّفظ فيجب أن يتخصّص فيه بالفسخ‏,‏ وإن نوى به الطّلاق كان اختياراً لهنّ دون غيرهنّ‏,‏ وذكر القاضي من الحنابلة فيه عند الإطلاق وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه يكون اختياراً للمفارقات‏,‏ لأنّ لفظ الفراق صريح في الطّلاق قال ابن قدامة‏:‏ والأولى ما ذكرناه‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع زوجاتٍ قد دخل بهنّ فأسلمن معه وكنّ ثمانياً فاختار أربعاً منهنّ وفارق أربعاً منهنّ لم يطأ واحدةً من المختارات حتّى تنقضي عدّة المفارقات لئلا يكون واطئاً لأكثر من أربعٍ‏,‏ فإن كنّ خمساً ففارق إحداهنّ فله وطء ثلاثٍ من المختارات ولا يطأ الرّابعة حتّى تنقضي عدّة من فارقها‏,‏ فإن كنّ ستاً ففارق اثنتين فله وطء اثنتين من المختارات فإن كنّ سبعاً ففارق ثلاثاً فله وطء واحدةٍ من المختارات ولا يطأ الباقيات حتّى تنقضي عدّة المفارقات فكلّما انقضت عدّة واحدةٍ من المفارقات فله وطء واحدةٍ من المختارات‏,‏ وما سبق إنّما هو بالنّسبة للكافر الّذي أسلم على أكثر من أربع نسوةٍ‏.‏

أمّا المسلم الّذي يجمع بين أكثر من أربع نسوةٍ في عصمته في وقتٍ واحدٍ فإنّ الحكم يختلف بين ما إذا كان تزوّجهنّ بعقد واحدٍ وما إذا كان تزوّجهنّ بعقود متفرّقةٍ‏.‏

فإذا كان تزوّجهنّ بعقد واحدٍ فلا بدّ من مفارقة جميعهنّ وهذا باتّفاق الفقهاء لأنّ النّكاح يبطل في جميعهنّ‏,‏ إذ ليس إبطال نكاح واحدةٍ بأولى من الأخرى فبطل الجميع‏.‏

وكذلك الحكم لو كانت العقود متفرّقةً وجهل ترتيبها ولم يدر أيّ واحدةٍ هي الخامسة‏,‏ فأمّا إن كانت العقود مترتّبةً فالأخيرة هي الّتي يجب مفارقتها وهذا باتّفاق كذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ الجمع بين من يحرم الجمع بينهنّ‏:‏

18 - إذا جمع المسلم بين من يحرم عليه الجمع بينهنّ كما إذا عقد على أختين أو جمع بين امرأةٍ وعمّتها أو امرأةٍ وخالتها‏,‏ فإن كان في عقدٍ واحدٍ بطل نكاحهما وإن كانا في عقدين بطل نكاح الثّانية‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏محرّمات النّكاح ف 23‏)‏‏.‏

أمّا من كان كافراً وأسلم وكان متزوّجاً بمن يحرم الجمع بينهنّ كأختين وأسلمن معه فقد ذهب جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه أن يختار واحدة ويفارق الأخرى وسواء أكان تزوجهما بعقد واحد أو بعقدين وسواء أكان دخل بهما أو دخل بإحداهما وذلك لحديث فيروز الدّيلميّ‏:‏ «قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏,‏ إني أسلمت وتحتي أختان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ طلق أيتهما شئت»‏.‏

ولأن المبقاة يجوز له ابتداء نكاحها فجاز له استدامته كغيرها‏,‏ ولأن أنكحة الكفار صحيحة وإنما حرم الجمع وقد أزاله‏,‏ ولا مهر للمفارقة منهما قبل الدخول‏,‏ وهكذا الحكم في المرأة وعمتها أو خالتها لأن المعنى في الجميع واحد‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ إن كان دخل بهما واختار إحداهما لم يطأها حتى تنقضي عدة المفارقة‏.‏

وهذا ما ذهب إليه أيضا محمد بن الحسن من الحنفية واستدل بحديث فيروز السابق‏,‏ قال‏:‏ لقد خيره الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستفسر أن نكاحهن كان دفعة واحدة أو على الترتيب ولو كان الحكم يختلف لاستفسر فدل على أن حكم الشرع فيه هو التخيير مطلقاً‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ إن كان تزوج الأختين في عقدة واحدة فيجب عليه مفارقتهما لأن نكاح واحدة منهما جعل جمعاً إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى والإسلام يمنع من ذلك ولا مانع من التفريق فيفرق‏,‏ وإن كان تزوجهما في عقدين فنكاح الأولى وقع صحيحاً إذ لا مانع من الصحة وبطل نكاح الثانية لحصوله جمعاً فلا بد من التفريق بعد الإسلام قالا‏:‏ والنبي صلى الله عليه وسلم قال لفيروز‏:‏ «طلق أيتهما شئت» ومعلوم أن الطلاق إنما يكون في النكاح الصحيح فدل أن ذلك العقد وقع صحيحاً في الأصل فدل أنه كان قبل تحريم الجمع ولا كلام فيه‏.‏

ثالثاً‏:‏ السّلام بعد المفارقة

19 - قال النّووي‏:‏ البدء بالسّلام سنّة مؤكّدة ومن السنّة أنّ من سلّم على إنسانٍ ثمّ فارقه ثمّ لقيه على قربٍ أو حال بينهم شيء ثمّ اجتمعا فالسنّة أن يسلّم عليه‏,‏ وهكذا لو تكرّر ذلك ثالثاً ورابعاً وأكثر سلّم عند كلّ لقاءٍ وإن قرب الزّمان‏,‏ قال‏:‏ اتّفق عليه أصحابنا لحديث أبي هريرة في قصّة المسيء صلاته‏:‏ «أنّه صلّى في جانب المسجد ثمّ جاء فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه السّلام ثمّ قال ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ فرجع فصلّى، ثمّ جاء فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى فعل ذلك ثلاث مرّاتٍ»‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلّم، عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثمّ لقيه فليسلّم عليه»‏.‏ وعن أنسٍ رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتماشون، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة فتفرّقوا يميناً وشمالاً ثمّ التقوا من ورائها سلّم بعضهم على بعضٍ»‏.‏

ومن السنّة إذا قام شخص من المجلس وأراد فراق الجالسين أن يسلّم عليهم‏.‏

وتفصيل هذه المسألة في‏:‏ ‏(‏مصطلح سلام ف 25‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ مفارقة جماعة المسلمين

20 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب طاعة الإمام العادل ويحرم الخروج عليه‏,‏ أمّا غير العادل فقد اختلف في طاعته‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏الإمامة الكبرى ف 12‏,‏ 21‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ مصالحة الزّوجة زوجها حتّى لا يفارقها

21 - إذا نفر الزّوج من زوجته وأراد فراقها فيجوز للزّوجة مصالحته حتّى لا يفارقها‏,‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏‏.‏

قال ابن كثيرٍ‏:‏ الظّاهر من الآية أنّ صلحهما على ترك بعض حقّها للزّوج وقبول الزّوج ذلك خير من المفارقة بالكلّيّة‏,‏ كما أمسك النّبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة رضي الله عنهما على أن تركت يومها لعائشة رضي الله تعالى عنها ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه‏,‏ وفعل النّبي صلى الله عليه وسلم ذلك لتتأسّى به أمّته في مشروعيّة ذلك وجوازه ولمّا كان الوفاق أحبّ إلى اللّه من الفراق قال‏:‏ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ فإذا أصرّ الزّوج على الفراق فقد أخبر اللّه تعالى أنّهما إذا تفرّقا فإنّ اللّه يغنيه عنها ويغنيها عنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ‏}‏‏.‏

سادساً‏:‏ مفارقة الجالسين في الأمكنة العامّة أماكنهم

22 - يجوز لكلّ أحدٍ من النّاس أن يجلس في الأماكن العامّة كالشّارع والمسجد والسوق وذلك للحاجة من معاملةٍ أو حرفةٍ أو إقراءٍ أو غير ذلك إذا لم يكن في ذلك ضرر للغير‏,‏ وهذا باتّفاق‏,‏ لكن إذا جلس أحد في مكانٍ من هذه الأماكن ثمّ فارقه ثمّ عاد إليه فهل يكون أحقّ به‏؟‏ للفقهاء في ذلك تفصيل بيانه في مصطلح‏:‏ ‏(‏مجلس ف 7‏,‏ وارتفاق 8 - 9‏,‏ وطريق ف 9 - 13‏)‏‏.‏

مُفْتِي

انظر‏:‏ فتوى‏.‏

مَفْسَدَة

انظر‏:‏ سد الذّرائع‏.‏

مُفِصَّل

التّعريف

1 - المفصّل - بفتح الصّاد المشدّدة - هو السبع السّابع أو الأخير من القرآن الكريم‏,‏ وهو ما يلي المثاني من قصار السور‏,‏ سمّي به لكثرة الفصول بين سوره بالبسملة أو لقلّة المنسوخ فيه ولهذا يسمّى بالمحكم أيضاً كما ورد عن سعيد بن جبيرٍ قال‏:‏ إنّ الّذي تدعونه المفصّل هو المحكم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الطول‏:‏

2 - قال الزّركشي‏:‏ السّبع الطول أوّلها البقرة وآخرها براءة، لأنّهم كانوا يعدون الأنفال و براءة سورة واحدة‏,‏ ولذلك لم يفصلوا بينهما‏,‏ لأنّهما نزلتا جميعاً في مغازي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏,‏ وسمّي طولاً‏:‏ لطولها‏.‏

وحكي عن سعيد بن جبيرٍ رحمه الله‏:‏ أنّه عدّ السّبع الطول‏:‏ البقرة وآل عمران‏,‏ والنّساء والمائدة‏,‏ والأنعام‏,‏ والأعراف‏,‏ ويونس‏.‏

وروي مثله عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما‏.‏

والصّلة بين المفصّل والطول‏:‏ أنّهما من أقسام القرآن الكريم‏.‏

عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أعطيت مكان التّوراة السّبع، وأعطيت مكان الزّبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصّل»‏.‏

ب - المئون‏:‏

3 - المئون هي السور القرآنيّة الّتي وليت السّبع الطول‏,‏ سمّيت بذلك لأنّ كلّ سورةٍ منها تزيد على مائة آيةٍ أو تقاربها‏.‏

والصّلة بين المفصّل والمئين‏:‏ أنّ كلاً منهما من أقسام القرآن الكريم‏.‏

ج - المثاني‏:‏

4 - المثاني في اللغة‏:‏ جمع مثنى أو مثنّاةٍ‏,‏ من التّثنية بمعنى التّكرار‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ ما ولي المئين‏,‏ لأنّها ثنتها‏,‏ أي كانت بعدها‏,‏ فالمثاني للمئين ثوانٍ‏,‏ والمئون لها أوائل‏,‏ قال السيوطيّ‏,‏ وعزاه إلى الفرّاء‏:‏ إنّ المثاني هي السور الّتي آيها أقل من مائةٍ‏,‏ لأنّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطول والمئون‏.‏

ويطلق المثاني أيضاً على القرآن كلّه كما في‏:‏ ‏{‏كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ‏}‏ لأنّه يكرّر فيه الأنباء والوعد والوعيد والقصص‏.‏

كما تطلق على الفاتحة لأنّها تثنّى في كلّ صلاةٍ‏.‏ والعلاقة بين المفصّل والمثاني على الإطلاق الأوّل‏:‏ أنّ كلاً منهما من أقسام سور القرآن الكريم‏.‏

وعلى الإطلاق الثّاني‏:‏ أنّ المفصّل جزء من المثاني‏.‏

وعلى الإطلاق الثّالث‏:‏ كلاهما ممّا يشتمل عليه القرآن الكريم‏.‏

آخر المفصّل وأوّله

5 - قال الزّركشي والسيوطي‏:‏ آخر المفصّل في القرآن الكريم سورة النّاس بلا نزاعٍ‏.‏ واختلف الفقهاء في أوّل المفصّل‏:‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة على المعتمد والشّافعيّة في الأصحّ‏,‏ وابن عقيلٍ من الحنابلة إلى أنّ أوّل المفصّل سورة الحجرات‏.‏

والصّحيح من المذهب عند الحنابلة أنّ أوّل المفصّل من سورة ‏"‏ ق ‏"‏‏.‏

وقد جمع الزّركشي أقوال الفقهاء في أوّل المفصّل في اثني عشر قولاً هي‏:‏

أحدها‏:‏ الجاثية‏.‏

ثانيها‏:‏ القتال‏,‏ وعزاه الماورديّ للأكثرين‏.‏

ثالثها‏:‏ الحجرات‏.‏

رابعها‏:‏ ‏"‏ ق ‏"‏‏,‏ قيل وهي أوّله في مصحف عثمان رضي الله عنه‏.‏

وفيه حديث ذكره الخطّابي في غريبه‏,‏ يرويه عيسى بن يونس قال‏:‏ حدّثنا عبد الرّحمن بن يعلى الطّائفي قال‏:‏ حدّثني عثمان بن عبد اللّه بن أوس بن حذيفة عن جدّه‏:‏ «أنّه وفد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيفٍ فسمع أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يحزّب القرآن، قال‏:‏ وحزب المفصّل من ‏"‏ ق ‏"‏»‏.‏

وقال الماورديّ في تفسيره‏:‏ حكاه عيسى بن عمر عن كثيرٍ من الصّحابة‏,‏ للحديث المذكور‏.‏

الخامس‏:‏ الصّافّات‏.‏

السّادس‏:‏ الصّف‏.‏

السّابع‏:‏ تبارك‏.‏

حكى هذه الثّلاثة ابن أبي الصّيف اليمني في ‏"‏ نكت التّنبيه ‏"‏‏.‏

الثّامن‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ‏}‏ حكاه الذّماري في شرح التّنبيه المسمّى‏:‏ رفع التّمويه‏.‏

التّاسع‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ‏}‏‏,‏ حكاه ابن السّيّد في أماليه على الموطّأ، وقال‏:‏ إنّه كذلك في مصحف ابن مسعودٍ رضي الله عنه‏.‏ قلت رواه أحمد في مسنده كذلك‏.‏

العاشر‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ‏}‏‏.‏

الحادي عشر‏:‏ ‏{‏سَبِّحِ‏}‏‏,‏ حكاه ابن الفركاح في تعليقه عن المرزوقيّ‏.‏

الثّاني عشر‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى‏}‏‏,‏ عزاه الماورديّ لابن عبّاسٍ‏,‏ حكاه الخطّابي في غريبه‏,‏ ووجّهه بأنّ القارئ يفصّل بين هذه السور بالتّكبير قال‏:‏ وهو مذهب ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما وقرّاء مكّة‏.‏

والصّحيح عند أهل الأثر أنّ أوّله ‏"‏ ق ‏"‏‏.‏

أقسام المفصّل

6 - قال السيوطيّ‏:‏ للمفصّل طوال وأوساط وقصار‏,‏ قال ابن معنٍ‏:‏ فطواله إلى ‏"‏ عمّ ‏"‏ وأوساطه منها إلى ‏"‏ الضحى ‏"‏‏,‏ ومنها إلى آخر القرآن قصار‏.‏

قال‏:‏ هذا أقرب ما قيل فيه‏.‏

وفيه خلاف وتفصيل‏,‏ ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏قراءة ف 5‏)‏‏.‏

ما يقرأ من المفصّل في الصّلوات الخمس

7 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسن للمصلّي أن يقرأ في صلاة الصبح بطوال المفصّل‏,‏ كما اتّفقوا على أنّه يقرأ في المغرب بقصار المفصّل‏,‏ وفي العشاء بأوساطه‏.‏

واختلفوا في الظهر والعصر على أقوالٍ ينظر تفصيلها في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة ف 66‏)‏‏.‏

مَفْصِل

التّعريف

1 - المَفْصِل على وزن مسجدٍ‏,‏ وهو في اللغة‏:‏ ملتقى العظمات من الجسد‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو موضع اتّصال عضوٍ بآخر على مقطع عظمين برباطات واصلةٍ بينهما‏,‏ إمّا مع دخول أحدهما في الآخر كالركبة‏,‏ أو لا كالكوع‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمفصل

تتعلّق بالمفصل أحكام منها‏:‏

أ - في الغسل والوضوء‏:‏

2 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسن في الوضوء والغسل غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء‏,‏ قال الحصكفي من الحنفيّة‏:‏ الرسغ هو مفصل الكفّ بين الكوع والكرسوع‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏غسل ف 30‏,‏ وضوء‏)‏‏.‏

ب - في القصاص‏:‏

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من شروط كون الجناية على ما دون النّفس موجبةً للقصاص‏,‏ إمكان الاستيفاء من غير حيفٍ‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ هذا إنّما يتحقّق في الجناية الّتي تبين العضو عمداً‏,‏ بأن يكون القطع من مفصلٍ فإن كان من غير مفصلٍ فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلافٍ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية على كلٍّ دون النّفس ف 11‏)‏‏.‏

ج - في الدّيات‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ في قطع كلّ أنملةٍ من كلّ أصبعٍ من اليدين والرّجلين ثلث عشر الدّية‏,‏ لأنّ فيها ثلاثة مفاصل‏,‏ إلا الإبهام ففيها أنملتان‏,‏ ففي كلّ مفصلٍ منها نصف عشر الدّية‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏ديات ف 53‏)‏‏.‏

د - في السّرقة‏:‏

5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ موضع قطع اليد في السّرقة - بعد تحقق شروط القطع - يكون من الكوع‏,‏ وهو مفصل الكفّ‏.‏

وموضع قطع الرّجل هو مفصل الكعب من السّاق‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة ف 66‏)‏‏.‏

مُفَضَّض

انظر‏:‏ آنية‏.‏

مَفْقُود

التّعريف

1 - المفقود في اللغة‏:‏ الضّائع والمعدوم يقال‏:‏ فقد الشّيء يفقده فقداً‏,‏ وفقداناً‏,‏ وفقوداً‏:‏ ضلّه وضاع منه‏,‏ وفقد المال ونحوه‏:‏ خسره وعدمه‏.‏

والمفقود في الاصطلاح‏:‏ غائب لم يدر موضعه وحياته وموته‏,‏ وأهله في طلبه يجدون‏,‏ وقد انقطع خبره وخفي عليهم أثره‏.‏

أنواع المفقود‏:‏

2 - المفقود عند الحنفيّة والشّافعيّة نوع واحد‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المفقود على أنواعٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ المفقود في بلاد المسلمين‏,‏ ومنهم من فرّع هذا النّوع إلى مفقودٍ في زمان الوباء‏,‏ ومفقود في غيره‏.‏

الثّاني‏:‏ المفقود في بلاد الأعداء‏.‏

الثّالث‏:‏ المفقود في قتال المسلمين مع الكفّار‏.‏

الرّابع‏:‏ المفقود في قتال المسلمين بعضهم مع بعضٍ‏.‏

وأمّا الحنابلة فالمفقود عندهم قسمان‏:‏

الأوّل‏:‏ من انقطع خبره لغيبة ظاهرها السّلامة‏,‏ كالمسافر للتّجارة أو للسّياحة أو لطلب العلم ونحو ذلك‏.‏

الثّاني‏:‏ من انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك‏,‏ كالجنديّ الّذي يفقد في المعركة‏,‏ وراكب السّفينة الّتي غرقت ونجا بعض ركابها‏,‏ والرّجل الّذي يفقد من بين أهله‏,‏ كمن خرج إلى السوق أو إلى حاجةٍ قريبةٍ فلم يرجع‏,‏ ومن هذا النّوع أيضاً من فقد في صحراء مهلكةٍ أو نحو ذلك‏.‏

3 - أمّا الأسير‏,‏ الّذي لا يدرى أحي هو أم ميّت فإنّه يعتبر مفقوداً في قول الزهريّ‏,‏ والحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وأمّا المالكيّة‏,‏ فلم يجعلوا الأسير مفقوداً ولو لم يعرف موضعه ولا موقعه بعد الأسر‏,‏ إلا في قول ابن عبد البرّ بأنّ الأسير الّذي تعرف حياته في وقتٍ من الأوقات‏,‏ ثمّ ينقطع خبره‏,‏ ولا يعرف له موت ولا حياة يعتبر مفقوداً من النّوع الثّاني عندهم‏.‏

وقد اعتبر الحنفيّة المرتدّ الّذي لم يعد ألحق بدار الحرب أم لا مفقوداً‏.‏

ولم يعتبر المالكيّة المحبوس الّذي لا يستطاع الكشف عنه مفقوداً‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمفقود

يتعلّق بالمفقود أحكام متعدّدة منها‏:‏

أ - زوجة المفقود‏:‏

4 - من الثّابت شرعاً أنّ الفقدان لا يؤثّر في عقد الزّوج‏,‏ لذلك فإنّ زوجة المفقود تبقى على نكاحه‏,‏ وتستحق النّفقة في قول الفقهاء جميعاً‏,‏ ويقع عليها طلاقه وظهاره وإيلاؤه‏,‏ وترثه ويرثها‏,‏ ما لم ينته الفقدان‏.‏

ولكن إلى متى تبقى كذلك‏؟‏ لم يأت في السنّة إلا حديث واحد هو قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «امرأة المفقود امرأته حتّى يأتيها الخبر»‏.‏

وهذا النّص المجمل جاء بيانه في قول عليٍّ رضي الله عنه‏:‏ بأنّ امرأة المفقود تبقى على عصمته إلى أن يموت‏,‏ أو يأتي منه طلاقها‏.‏

وبه قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه والنّخعيّ‏,‏ وأبو قلابة‏,‏ والشّعبي‏,‏ وجابر بن زيدٍ‏,‏ والحكم‏,‏ وحمّاد‏,‏ وابن أبي ليلى‏,‏ وابن شبرمة وعثمان البتّي‏,‏ وسفيان الثّوري‏,‏ والحسن ابن حيٍّ‏,‏ وبعض أصحاب الحديث‏.‏

وإليه ذهب الحنفيّة‏,‏ والشّافعي في الجديد‏.‏

وذهب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أنّ امرأة المفقود تتربّص أربع سنين‏,‏ ثمّ تعتد للوفاة أربعة أشهرٍ وعشرة أيّامٍ‏,‏ فإذا انقضت حلّت للأزواج‏.‏

وبهذا القول قال عثمان‏,‏ وابن عمر‏,‏ وابن عبّاسٍ‏,‏ وابن الزبير‏,‏ هو رواية عن ابن مسعودٍ‏,‏ وعليٍّ رضي الله عنهم‏,‏ وهو قول الشّافعيّ في القديم‏.‏

وعن سعيد بن المسيّب أنّه إذا فقد في الصّفّ عند القتال تربّصت امرأته سنةً‏,‏ وإذا فقد في غيره تربّصت أربع سنين‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ المفقود في بلاد المسلمين تتربّص امرأته أربع سنين‏,‏ ثمّ تعتد أربعة أشهرٍ وعشرة أيّامٍ‏,‏ ثمّ تحل للأزواج‏,‏ وأمّا المفقود في بلاد الأعداء‏,‏ فإنّ زوجته لا تحل للأزواج إلا إذا ثبت موته‏,‏ أو بلغ من العمر حداً لا يحيا إلى مثله‏,‏ وهو مقدّر بسبعين سنةً في قول مالكٍ وابن القاسم وأشهب‏,‏ وقال مالك مرّةً‏:‏ إذا بلغ ثمانين سنةً‏,‏ وقال ابن عرفة‏:‏ إذا بلغ خمساً وسبعين سنةً وعليه القضاء‏,‏ وذهب أشهب إلى أنّه يعتبر كالمفقود في بلاد المسلمين‏.‏

أمّا المفقود في قتال المسلمين مع الكفّار فقد قال مالك وابن القاسم بأنّه يعتبر كالمفقود في بلاد الأعداء‏,‏ وعن مالكٍ‏:‏ تتربّص امرأته سنةً‏,‏ ثمّ تعتد‏,‏ وقيل‏:‏ هو كالمفقود في بلاد المسلمين‏.‏

وأمّا المفقود في قتال المسلمين بعضهم مع بعضٍ فقد قال مالك وابن القاسم‏:‏ ليس في ذلك أجل معيّن‏,‏ وإنّما تعتد زوجته من يوم التقاء الصّفّين‏,‏ وقيل‏:‏ تتربّص سنةً ثمّ تعتد‏,‏ وقيل‏:‏ يترك ذلك لاجتهاد الإمام‏.‏

وأمّا الحنابلة فعندهم في المفقود الّذي ظاهر غيبته السّلامة قولان‏:‏

الأوّل‏:‏ لا تزول الزّوجيّة ما لم يثبت موته‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ زوجته تنتظر حتّى يبلغ من العمر تسعين سنةً في روايةٍ‏,‏ وفي روايةٍ أخرى أنّ المدّة مفوّضة إلى رأي الإمام والرّواية الأولى هي القويّة المفتى بها‏,‏ وهذا هو الصّحيح في المذهب‏.‏

ومن الحنابلة من قدّر المدّة بمائة وعشرين سنةً‏.‏

وأمّا المفقود الّذي ظاهر غيبته الهلاك‏,‏ فإنّ زوجته تتربّص أربع سنين‏,‏ ثمّ تعتد للوفاة‏,‏ وهو المذهب‏.‏

بدء مدّة التّربص

5 - تبدأ مدّة التّربص من حين رفع الأمر إلى القاضي‏,‏ وهو قول عمر رضي الله عنه‏,‏ وعطاءٍ وقتادة‏,‏ وعليه اتّفق أكثر من قال بالتّربص‏,‏ وهو المذهب عند المالكيّة‏,‏ وفي روايةٍ عن مالكٍ تبدأ من حين اليأس من وجود المفقود بعد التّحرّي عنه‏,‏ وهو القول الأظهر للشّافعيّ بناءً على مذهبه القديم‏,‏ ورواية عند الحنابلة‏.‏

وقيل‏:‏ تبدأ المدّة من حين الغيبة‏,‏ وهو قول للشّافعيّ بناءً على مذهبه القديم‏,‏ والرّواية الأصح والصّواب عند الحنابلة‏.‏

وهناك نصوص نقلت عن عمر‏,‏ وعثمان وابن عمر‏,‏ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم‏,‏ وسعيد ابن المسيّب‏,‏ جاء فيها ذكر مدّة التّربص دون تحديد متى تبدأ‏.‏

وذهب عمر‏,‏ وابن عبّاسٍ‏,‏ وابن عمر‏,‏ رضي الله عنهم‏,‏ وعطاء وإسحاق إلى أنّه لا بدّ من أن يطلّق ولي المفقود زوجته‏,‏ وهو رواية عند الحنابلة‏.‏

وفي روايةٍ عن ابن عبّاسٍ‏,‏ وابن عمر رضي الله عنهم أنّه لا حاجة لطلاق الوليّ‏,‏ وهو الرّواية الثّانية عند الحنابلة والصّحيح عندهم والمتّفق مع القياس‏.‏

ما يجب على زوجة المفقود بعد التّربص

6 - يجب على زوجة المفقود بعد مدّة التّربص أن تعتدّ للوفاة أربعة أشهرٍ وعشرة أيّامٍ وهذا قول عمر والصّحابة والعلماء الّذين أخذوا بقوله‏.‏

ولا تحتاج الزّوجة بعد مدّة التّربص لحكم من الحاكم بالعدّة‏,‏ ولا بالزّواج بعد انقضائها في قول المالكيّة والحنابلة‏.‏

وأمّا عند الشّافعيّة‏,‏ فعلى القول القديم عندهم فيه وجهان‏,‏ والأصح أنّه لا بدّ من الحكم‏.‏

ما يترتّب على حكم الحاكم بالتّفريق

7 - إذا حكم الحاكم بالتّفريق بين المفقود وزوجته فإنّ الحكم ينفذ بالظّاهر دون الباطن‏,‏ وهو الأصح عند الشّافعيّة‏.‏

وقيل ينفذ ظاهراً وباطناً‏,‏ وهو قول الحنابلة‏.‏

ولهذا نتائج في أثر ظهور المفقود حياً في نكاح الزّوجة غيرَه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ ف 25 - 26‏)‏‏.‏

فإن تزوّجت امرأة المفقود في وقتٍ ليس لها أن تتزوّج فيه فنكاحها باطل‏,‏ لأنّ حكم الزّوجيّة بينها وبين زوجها الأوّل على حاله‏.‏

ولو تزوّجت امرأة المفقود قبل مضّي الزّمان المعتبر للتّربص والعدّة‏,‏ ثمّ تبيّن أنّه كان ميّتاً أو أنّه كان قد طلّقها قبل ذلك بمدّة تنقضي فيها العدّة لم يصحّ النّكاح لأنّها ممنوعة منه فأشبهت الزّوجة‏,‏ وهو قول للشّافعيّة‏,‏ وأمّا القول الأصح عندهم فإنّ نكاحها صحيح‏,‏ وبالقول الأوّل للشّافعيّة أخذ الحنابلة‏.‏

ولو ادّعت امرأة أنّها زوجة للمفقود‏,‏ وأقامت بيّنةً على ذلك لم يقض لها به عند الحنفيّة‏,‏ خلافاً للمالكيّة‏,‏ ومبنى المسألة قائم على جواز الحكم على الغائب وعدمه‏.‏

ب - أموال المفقود‏:‏

للفقدان أثر ظاهر في أموال المفقود القائمة‏,‏ وفي اكتسابها بالوصيّة‏,‏ والإرث‏,‏ وفي إدارة تلك الأموال‏.‏

أوّلاً‏:‏ في بيع مال المفقود‏:‏

8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس للقاضي أن يبيع عقار المفقود‏,‏ ولا العروض الّتي لا يتسارع إليها الفساد‏,‏ وأمّا ما يتسارع إليه الفساد كالثّمار ونحوها فإنّه يبيعه‏,‏ ويحفظ ثمنه‏.‏

وذهب المالكيّة إلى جواز بيع أموال المفقود إذا قضى عليه بدين أو استحقاقٍ أو ضمان عيبٍ ونحو ذلك‏,‏ وهذا مبني على قولهم في جواز القضاء على الغائب

ثانياً‏:‏ في قبض حقوق المفقود‏:‏

9 - ليس للقاضي عند الحنفيّة أن يأخذ مال المفقود الّذي في يد مودعه‏,‏ ولا المال الّذي في يد الشّريك المضارب‏,‏ لأنّهما نائبان عن المفقود في الحفظ‏,‏ وعند المالكيّة له ذلك‏,‏ وهو قول عند الحنفيّة‏,‏ غير أنّ ابن عابدين حمله على أنّ القاضي رأى مصلحةً فيه‏,‏ كما لو كان المدين غير ثقةٍ‏.‏

ولو أنّ المدين دفع الدّين إلى زوجة المفقود أو ولده‏,‏ وكذلك المستأجر لو دفع الأجرة‏,‏ فإنّ الذّمّة لا تبرأ ما لم يأمر القاضي بذلك‏,‏ هذا عند الحنفيّة وأمّا عند المالكيّة فإنّ ديون المفقود لا تدفع للورثة‏,‏ وإنّما تدفع للسلطان‏.‏

ثالثاً‏:‏ في الإنفاق من مال المفقود‏:‏

10 - من الثّابت بإجماع الفقهاء أنّ زوجة المفقود تستحق النّفقة ‏(‏ر‏:‏ ف 4‏)‏‏,‏ وهذه النّفقة تكون في مال المفقود‏,‏ بذلك قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏.‏

وقال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما‏:‏ تستدين‏,‏ فإن جاء زوجها أخذت من ماله‏,‏ وإن مات أخذت من نصيبها من الميراث‏,‏ وبه قال النّخعيّ‏,‏ فإن لم يكن للمفقود مال‏,‏ وطلبت الزّوجة من القاضي الحكم لها بالنّفقة فإنّه يجيبها إلى ذلك‏,‏ وبه قال النّخعيّ‏,‏ وهو قول لأبي حنيفة‏,‏ وفي قولٍ آخر له‏:‏ لا يجيبها‏,‏ وهو قول شريحٍ‏,‏ وقال زفر‏:‏ يأمرها القاضي بأن تستدين‏,‏ وتنفق على نفسها‏.‏

وتنقطع النّفقة بموت المفقود‏,‏ أو بمفارقته لها فإن استمرّت بقبض النّفقة بعد أن تبيّن أنّه مات أو فارقها ثمّ رجع‏,‏ فعليها أن تعيد ما قبضته من تاريخ الموت‏,‏ أو المفارقة‏.‏

وتسقط النّفقة عند الشّافعيّة بزواج امرأة المفقود من غيره‏.‏

وعند الحنابلة تسقط بتفريق الحاكم بينها وبين زوجها المفقود‏,‏ أو بزواجها من غيره‏,‏ ويجب في مال المفقود نفقة زوجته في مدّة العدّة، بذلك قال ابن عمر‏,‏ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم‏,‏ وفيه قولان عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

11 - ويجب في مال المفقود نفقة الفقراء من أولاده ووالديه وهو قول الحنفيّة‏,‏ والشّافعيّة‏,‏ والمالكيّة غير أنّ المالكيّة اشترطوا لاستحقاق الأبوين النّفقة أن يكون قد قضى بها قاضٍ قبل الفقد‏,‏ فإن تبيّن أنّ المفقود ميّت‏,‏ واستمرّ هؤلاء بقبض النّفقة بعد ثبوت موته‏,‏ فإنّهم يغرمون ما أنفق عليهم من يوم مات‏,‏ لأنّهم ورثة‏.‏

12 - وتستوفى النّفقة المفروضة للزّوجة والأولاد والوالدين من دراهم المفقود ودنانيره ومن التّبر أيضاً‏,‏ إذا كان كل ذلك تحت يد القاضي‏,‏ أو كان وديعةً‏,‏ أو ديناً للمفقود‏,‏ وقد أقرّ الوديع والمدين بذلك‏,‏ وأقرّا بالزّوجيّة والنّسب‏.‏

وينتصب الوديع والمدين خصماً في الدّعوى‏,‏ لأنّ المال تحت يدهما‏,‏ فيتعدّى القضاء منهما إلى المفقود‏,‏ فإن كان الوديع أو المدين منكراً للوديعة أو الدّين أو الزّوجيّة والنّسب‏,‏ لم يصلح لمخاصمة أحدٍ من مستحقّي النّفقة‏,‏ ولا تسمع البيّنة ضدّه‏.‏

وليس لهؤلاء بيع شيءٍ من مال المفقود الّذي يخاف عليه الفساد كالثّمار‏,‏ ونحوها‏,‏ فإن باعوه‏,‏ فالبيع باطل‏.‏

وليس لهم بيع دار المفقود‏,‏ ولم لم يبق من ماله سواها‏,‏ واحتاجوا للنّفقة‏.‏

وعند الحنفيّة يجوز للقاضي أن يأخذ من مستحقّي النّفقة كفيلاً‏,‏ لاحتمال أن يحضر المفقود‏,‏ ويقيم البيّنة على طلاق امرأته‏,‏ وأنّه ترك لأولاده مالاً يكفي لنفقتهم‏,‏ وليس له ذلك عند المالكيّة‏.‏

والقضاء على المفقود بالنّفقة لمستحقّيها ليس قضاءً على الغائب حقيقةً‏,‏ وإنّما هو تمكين لهم من أخذ حقّهم‏.‏

ولا تجب على المفقود نفقة أحدٍ من أقارب المفقود غير الّذين ذكرنا آنفاً‏.‏

رابعاً‏:‏ في الوصيّة‏:‏

13 - توقف الوصيّة للمفقود عند الحنفيّة‏,‏ حتّى يظهر حاله‏,‏ فإن ظهر حياً قبل موت أقرانه فله الوصيّة‏,‏ وإذا حكم بموته ردّ المال الموصى به إلى ورثة الموصي‏.‏

ولو أنّ رجلاً أقام البيّنة على أنّ المفقود قد أوصى له بوصيّة وجاء موت المفقود أو بلغ من السّنين ما لا يحيا إلى مثلها‏,‏ والموصى له حي‏,‏ قال المالكيّة‏:‏ تقبل البيّنة‏,‏ وتصح الوصيّة إذا كانت في حدود الثلث‏,‏ وكذلك الحال لو أوصى له قبل الفقد‏,‏ وهذا مبني على أصولهم في جواز القضاء على الغائب‏.‏

خامساً‏:‏ في الإرث‏:‏

14 - يعتبر المفقود حياً بالنّسبة لأمواله‏,‏ فلا يرث منه أحد‏,‏ ويبقى كذلك إلى أن يثبت موته حقيقةً‏,‏ ويحكم باعتباره ميّتاً‏,‏ على ما يأتي بيانه ‏(‏ر‏:‏ ف 20 - 21‏)‏‏.‏

15 - ولا يرث المفقود من أحدٍ‏,‏ وإنّما يتعيّن وقف نصيبه من إرث مورّثه‏,‏ ويبقى كذلك إلى أن يتبيّن أمره‏,‏ ويكون ميراثه كميراث الحمل‏,‏ فإن ظهر أنّه حي استحقّ نصيبه وإن ثبت أنّه مات بعد موت مورثه استحقّ نصيبه من الإرث كذلك‏,‏ وإن ثبت أنّه مات قبل موت مورثه أو مضت المدّة‏,‏ ولم يعلم خبره‏,‏ فإنّ ما أوقف من نصيبه يرد إلى ورثة المورث‏.‏ وإن كان المفقود ممّن يحجب الحاضرين‏,‏ لم يصرف إليهم شيء‏,‏ بل يوقف المال كله‏.‏ وإن كان لا يحجبهم‏,‏ يعطى كل واحدٍ الأقلّ من نصيبه الإرثيّ على تقدير حياة المفقود‏,‏ وعلى تقدير موته‏,‏ مثال ذلك‏:‏ رجل مات عن بنتين‏,‏ وابنٍ مفقودٍ‏,‏ وابن ابنٍ‏,‏ وبنت ابنٍ‏,‏ وطلبت البنتان الإرث‏,‏ فإنّ فرضهما في هذه المسألة الثلثان‏,‏ لا يدفع إليهما‏,‏ وإنّما يدفع إليهما النّصف ‏;‏ لأنّه أقل النّصيبين‏,‏ ولا يدفع شيء لابن الابن‏,‏ ولا لبنت الابن‏,‏ فإذا مضت المدّة‏,‏ وحكم بموت المفقود‏,‏ أعطيت البنتان السّدس‏,‏ ليتمّ لهما الثلثان‏,‏ وأعطي الباقي لأولاد الابن‏,‏ للذّكر مثل حظّ الأنثيين‏,‏ وعلى ما سبق اتّفاق الفقهاء إلا ما ذكر من خلافٍ في المذهب الحنبليّ حول ردّ ما أوقف من نصيب المفقود الّذي لم يعلم خبره رغم مضيّ المدّة إلى ورثة المورث وهذا قول في المذهب‏,‏ غير أنّ القول الأصحّ فيه أنّه ملك للمفقود‏,‏ يوزع بين ورثته‏,‏ وعليه المذهب‏.‏

16 - ولو ادّعى ورثة رجلٍ أنّه فقد‏,‏ وطلبوا قسمة ماله فإنّ القاضي لا يقسمه حتّى تقوم البيّنة على موته‏,‏ وتكون الدّعوى بأن يجعل القاضي من في يده المال خصماً عن المفقود‏,‏ أو ينصّب عنه قيّماً في هذه الولاية‏.‏

سادساً‏:‏ في إدارة أموال المفقود‏:‏

تدار أموال المفقود من قبل وكيله‏,‏ أو وكيلٍ يعيّنه القاضي‏.‏

أ - الوكيل الّذي عيّنه المفقود‏:‏

17 - من كان له وكيل‏,‏ ثمّ فقد فإنّ الوكالة تبقى صحيحةً، لأنّ الوكيل لا ينعزل بفقد الموكّل‏.‏

ولهذا الوكيل أن يحفظ المال الّذي أودّعه المفقود‏,‏ وليس لأمين بيت المال أن ينزعه من يده‏.‏

وأمّا قبض الديون الّتي أقرّ بها غرماء المفقود‏,‏ وقبض غلات أمواله‏,‏ فليس له ذلك‏.‏ وذهب ابن عابدين إلى أنّ لوكيل المفقود حق قبض الديون والغلات ما دام قد وكّل بذلك‏.‏ وللحنابلة في قبض وكيل المفقود للغلات قولان‏.‏

وليس لمن كان وكيلاً بعمارة دار المفقود أن يعمّرها إلا بإذن الحاكم‏,‏ فلعلّه مات‏,‏ وحينئذٍ يكون التّصرف للورثة‏.‏

ب - الوكيل الّذي يعيّنه القاضي‏:‏

18 - إذا لم يكن للمفقود وكيل فإنّ على القاضي أن ينصّب له وكيلاً‏.‏

وهذا الوكيل يتولّى جمع مال المفقود وحفظه وقبض كلّ حقوقه من ديونٍ ثابتةٍ وأعيانٍ وغلاتٍ‏,‏ وليس له أن يخاصم إلا بإذن القاضي في الحقوق الّتي للمفقود‏,‏ وفي الحقوق الّتي عليه وإلى هذا ذهب الحنفيّة‏,‏ ووافقهم المالكيّة في الجملة‏.‏

ولا تسمع الدّعوى بحقّ على المفقود‏,‏ ولا تقبل البيّنة عند الحنفيّة‏,‏ غير أنّ القاضي إن قبل ذلك‏,‏ وحكم به‏,‏ نفذ حكمه‏,‏ وعليه الفتوى‏.‏

وذهب المالكيّة إلى قبول البيّنة على المفقود‏.‏

ولو طلب ورثة المفقود من الحاكم نصب وكيلٍ عنه‏,‏ فعليه أن يستجيب لذلك‏.‏

انتهاء الفقدان‏:‏

ينتهي الفقدان بإحدى الحالات الآتية‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ عودة المفقود‏:‏

19 - إذا ظهر أنّ المفقود حي‏,‏ وعاد إلى وطنه‏,‏ فقد انتهى الفقدان‏,‏ لأنّ المفقود مجهول الحياة أو الموت‏,‏ وبظهوره انتفت تلك الجهالة‏,‏ وسيأتي بيان ذلك‏.‏

‏(‏ر‏:‏ ف 25 - 26‏)‏‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ موت المفقود‏:‏

20 - إذا ثبت بالبيّنة أنّ المفقود قد مات فقد انتهت حالة الفقدان‏,‏ لزوال الجهالة الّتي كانت تحيط حياته أو موته‏,‏ وعلى ذلك اتّفاق الفقهاء‏.‏

ولا بدّ من ثبوت موته أمام القاضي‏,‏ غير أنّ الشّافعيّة لم يشترطوا صدور حكمٍ بذلك‏.‏ ويمكن للورثة أن يدّعوا موت المفقود‏,‏ ويقدّموا البيّنة لإثبات ذلك‏,‏ ويختار القاضي وكيلاً عن المفقود يخاصم الورثة‏,‏ فإذا أثبتت البيّنة موته‏,‏ قضى القاضي بذلك‏.‏

ويقسّم ميراث المفقود بين الأحياء من ورثته يوم موته‏,‏ وعليه اتّفاق الفقهاء‏,‏ لأنّ شرط التّوريث بقاء الوارث حياً بعد موت المورث‏.‏

21 - أمّا ميراث الزّوجة فاختلف الفقهاء فيه كما يلي‏:‏

ذهب الشّعبي إلى أنّ زوجة المفقود الّتي تزوّجت‏,‏ ثمّ ظهر أنّه ميّت فعليها العدّة منه‏,‏ وهي ترثه‏.‏

وفي المذهب المالكيّ تفصيل‏:‏ فإن جاء موته قبل أن تنكح زوجاً غيره‏,‏ فإنّها ترثه‏.‏

وإن تزوّجت بعد انقضاء العدّة‏,‏ لم يفرّق بينها وبين زوجها الثّاني‏,‏ وورثت من زوجها المفقود‏.‏

وإن تزوّجت وجاء موته قبل الدخول ورثته‏,‏ وفرّق بينهما‏,‏ واستقبلت عدّتها من يوم الموت‏.‏

وإن جاء موت المفقود بعد دخول الثّاني‏,‏ لم يفرّق بينهما‏,‏ ولا إرث لها‏.‏

أمّا إن كان زواج الثّاني قد وقع في العدّة من الأوّل المتوفّى‏,‏ فإنّها ترثه‏,‏ ويفرّق بينها وبين زوجها الثّاني‏.‏

وعند الحنابلة ترث الزّوجة من زوجها المفقود الّذي ثبت موته إن لم تتزوّج‏,‏ أو كانت تزوّجت ولم يدخل بها الثّاني‏,‏ وفي روايةٍ أنّها لا ترث منه‏.‏

فإن دخل بها الثّاني‏,‏ وكان الزّوح الأوّل قد قدم واختارها ثمّ مات‏,‏ فإنّها ترثه ويرثها‏,‏ ولو مات الثّاني لم ترثه‏,‏ ولم يرثها‏,‏ وإن مات أحدهما قبل اختيارها - وقلنا بأنّ لها أن تتزوّج - فإنّها ترث الزّوج الثّاني ويرثها‏,‏ لا ترث الزّوج الأوّل ولا يرثها‏.‏

وإن ماتت قبل اختيار الزّوج الأوّل‏,‏ فإنّه يخيّر‏,‏ فإن اختارها ورثها‏,‏ وإن لم يخترها ورثها الثّاني‏.‏

وهذا كله ظاهر مذهب الحنابلة‏.‏

واختار الشّيخ ابن قدامة أنّها لا ترث زوجها الثّاني‏,‏ ولا يرثها بحال إلا أن يجدّد لها عقداً‏,‏ أو لا يعلم أنّ الأوّل كان حياً‏,‏ ومتى علم أنّ الأوّل كان حياً ورثها وورثته‏,‏ إلا أن يختار تركها‏,‏ فتبين منه بذلك‏,‏ فلا ترثه ولا يرثها‏.‏

وعلى القول بأنّ الحكم بوقوع الفرقة يوقع التّفريق ظاهراً وباطناً ترث الثّاني ويرثها‏,‏ ولا ترث الأوّل ولا يرثها‏.‏

وأمّا عدّتها‏,‏ فمن ورثته اعتدّت لوفاته عدّة الوفاة‏.‏

الحالة الثّالثة‏:‏ اعتبار المفقود ميّتاً‏:‏

22 - يعتبر المفقود ميّتاً حكماً بمضيّ مدّةٍ على فقده‏,‏ أو ببلوغه سناً معيّنةً‏.‏

ففي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة يحكم بموت المفقود إذا لم يبق أحد من أقرانه في بلده‏,‏ لا في جميع البلدان‏,‏ وهو الأصح عندهم‏.‏

غير أنّهم اختلفوا في السّنّ الّتي يمكن أن يموت فيها الأقران‏,‏ فعن أبي حنيفة‏:‏ هي مائة وعشرون سنةً‏,‏ وهذا ما اختاره القدوري‏.‏

وعن أبي يوسف مائة سنةٍ‏,‏ وقال محمّد بن حامدٍ البخاري‏:‏ هي تسعون سنةً‏,‏ وذهب بعضهم إلى أنّها سبعون سنةً‏,‏ ومنهم من قال‏:‏ بأنّ هذه المدّة متروكة إلى اجتهاد الإمام‏,‏ وينظر إلى شخص المفقود والقرائن الظّاهرة‏.‏ ولعلماء الحنفيّة خلاف في التّرجيح بين هذه الأقوال فمنهم من قال‏:‏ الفتوى على التّسعين سنةً وهو الأرفق‏,‏ ومنهم من قال‏:‏ الفتوى على الثّمانين‏,‏ واختار ابن الهمام السّبعين سنةً‏,‏ ومنهم من قال بأنّ تفويض المدّة إلى الإمام هو المختار والأقيس‏.‏

وأمّا المالكيّة والحنابلة‏,‏ فقد ذكرنا مذهبهم قبلاً‏.‏

‏(‏ر‏:‏ ف 4‏)‏‏.‏

وأمّا الشّافعيّة‏,‏ فالصّحيح المشهور عندهم أنّ تقدير تلك السّنّ متروك لاجتهاد الإمام‏,‏ ومنهم من قدّره باثنتين وستّين سنةً‏,‏ أو بسبعين‏,‏ أو بثمانين‏,‏ أو بمائة‏,‏ أو بمائة وعشرين سنةً‏.‏

23 - فإذا انقضت المدّة المذكورة جرى تقسيم ميراث المفقود بين ورثته الموجودين في اليوم الّذي أعتبر فيه ميّتاً‏,‏ لا بين الّذين ماتوا قبله‏,‏ فكأنّه مات حقيقةً في ذلك اليوم‏,‏ بهذا قضى عمر وعثمان رضي الله عنهما‏,‏ وهو قول للحنفيّة‏,‏ وقول للمالكيّة‏,‏ وهو القول الأصح عند الحنابلة‏,‏ وفي القول الآخر عند الحنابلة‏:‏ يقسّم الميراث بعد انقضاء عدّة الزّوجة إذا كان المفقود يغلب عليه الهلاك وفي قولٍ للحنفيّة‏,‏ وفي القول المعتمد عند المالكيّة‏,‏ وفي المذهب الشّافعيّ‏,‏ وفي قولٍ للحنابلة‏:‏ أنّ ميراث المفقود يعطى لورثته الأحياء يوم الحكم بموته‏,‏ إلا أنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ إذا مضت مدّة زائدة على ما يغلب على الظّنّ أنّ المفقود لا يعيش فوقها‏,‏ وحكم القاضي بموته من مضيّ تلك المدّة السّابقة على حكمه بزمن معلومٍ‏,‏ فينبغي أن يصحّ‏,‏ ويعطى المال لمن كان وارثه في ذلك الوقت‏,‏ وإن كان سابقاً على الحكم‏.‏

وتعتد امرأة المفقود عدّة الوفاة في الوقت الّذي جرى فيه تقسيم ميراثه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ ف 5‏)‏‏.‏

24 - ولا بدّ من الحكم باعتباره ميّتاً عند الحنفيّة‏,‏ وهو المنصوص عليه في المذهب‏,‏ وهو قول عند المالكيّة‏,‏ وبه أخذ الشّافعيّة‏.‏

وهو قول عند الحنابلة‏,‏ غير أنّ القول الأصحّ عندهم أنّه لا يحتاج إلى حكمٍ باعتباره ميّتاً‏,‏ وهو قول للحنفيّة وللمالكيّة‏.‏

وأمّا طبيعة الحكم باعتباره المفقود ميّتاً‏,‏ فللفقهاء فيه خلاف‏,‏ فهو منشئ للحالة الجديدة الّتي أصبح عليها المفقود عند من قال بوجوب صدور الحكم‏,‏ وهو مظهر عند من قال بعدم وجوب الحكم‏.‏

‏(‏ر‏:‏ ف 6‏)‏‏.‏

ولهذا الخلاف نتائج مهمّة جداً‏,‏ فعلى القول بأنّ الحكم منشئ لا تستطيع الزّوجة أن تبدأ عدّة الوفاة‏,‏ ولا أن تتزوّج إلا بعد صدوره‏.‏

وكذلك فإنّ أموال المفقود لا توزّع إلا بين الورثة الموجودين يوم صدور الحكم لا قبله‏,‏ كأن المفقود قد مات حقيقةً في اليوم المذكور‏.‏

وأمّا من قال بأنّ الحكم مظهر‏,‏ فإنّ عدّة الزّوجة تبدأ من تاريخ انتهاء مدّة التّربص‏,‏ أو من بلوغ المفقود السّنّ الّتي لا يمكن أن يحيا بعدها‏,‏ وأنّ ميراث المفقود يقسّم بين ورثته الأحياء في ذلك التّاريخ‏,‏ ولا عبرة لصدور الحكم‏.‏

أثر ظهور المفقود بعد الحكم بموته

إن ظهر المفقود حياً بعد الحكم باعتباره ميّتاً‏,‏ فإنّ لذلك آثاراً بالنّسبة لزوجته‏,‏ وبالنّسبة لأمواله‏.‏

أوّلاً‏:‏ بالنّسبة لزوجته

25 - للفقهاء في هذه المسألة خلاف‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّ المفقود إن عاد ولم تكن زوجته قد تزوّجت فهو أحق بها‏,‏ فإن تزوّجت فلا سبيل له عليها‏,‏ وفي قولٍ آخر‏:‏ إنّ زوجته له‏.‏

وعند المالكيّة أنّ المفقود إن عاد قبل نكاح زوجته غيره‏,‏ فهي زوجته‏,‏ وهذا هو القول المشهور المعمول به‏,‏ فإن عاد بعد النّكاح‏,‏ فعن مالكٍ في ذلك روايتان‏:‏

الأولى‏:‏ إن عاد قبل الدخول‏,‏ فهو أحق بها‏,‏ ويفرّق بينها وبين زوجها الثّاني‏,‏ وأمّا إن عاد بعد الدخول‏,‏ فالثّاني على نكاحه‏,‏ ولا يفرّق بينه‏,‏ وبين زوجته‏.‏

الثّانية‏:‏ إن عاد المفقود‏,‏ فوجد زوجته قد تزوّجت فلا سبيل له عليها‏,‏ ولو لم يكن دخول‏.‏ وقد أخذ بكلّ من الرّوايتين طائفة من المالكيّة‏,‏ وقال ابن القاسم‏,‏ وأشهب بأنّ أقوى القولين ما جاء في الرّواية الثّانية وهي مذكورة في الموطّأ‏.‏

وقول الشّافعيّة يختلف بين القديم والجديد‏:‏ ففي القول القديم‏:‏ إن قدم المفقود بعد زواج امرأته‏,‏ ففي عودتها إليه قولان‏,‏ وقيل يخيّر الأوّل بين أخذها من الثّاني‏,‏ وتركها له وأخذ مهر المثل منه‏.‏

وفي القول الجديد‏:‏ هي باقية على نكاح المفقود‏,‏ فإن تزوّجت غيره فنكاحها باطل‏,‏ تعود للأوّل بعد انتهاء عدّتها من الثّاني‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ المفقود إن قدم قبل أن تتزوّج امرأته‏,‏ فهي على عصمته‏.‏

فإن تزوّجت غيره‏,‏ ولم يدخل بها‏,‏ فهي زوجة الأوّل في روايةٍ‏,‏ وهي الصّحيح‏,‏ وفي روايةٍ أنّه يخيّر‏.‏ فإن دخل بها الثّاني‏,‏ كان الأوّل بالخيار‏,‏ إن شاء أخذ زوجته بالعقد الأوّل‏,‏ وإن شاء أخذ مهرها وبقيت على نكاح الثّاني‏.‏

فإن اختار المرأة‏,‏ وجب عليها أن تعتدّ من الثّاني قبل أن يطأها الأوّل‏,‏ ولا حاجة لطلاقها منه‏,‏ وهو المنصوص عن أحمد، وقيل‏:‏ تحتاج إلى طلاقٍ‏.‏

وإن اختار تركها فإنّه يرجع على الزّوج الثّاني بالمهر الّذي دفعه هو‏,‏ وفي روايةٍ‏:‏ يرجع عليه بالمهر الّذي دفعه الثّاني‏,‏ والأوّل هو الصّواب‏.‏

وفي رجوع الزّوج الثّاني على المرأة بما دفعه للأوّل روايتان‏,‏ وعدم الرجوع هو الأظهر والأصح‏.‏

ويجب أن يجدّد الزّوج الثّاني عقد زواجه إن اختار الأوّل ترك الزّوجة له‏,‏ وهو الصّحيح‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحتاج إلى ذلك‏,‏ وهو القياس‏.‏

فإن رجع المفقود بعد موت الزّوجة على عصمة الثّاني فلا خيار له‏,‏ وهي زوجة الثّاني ظاهراً وباطناً‏,‏ وهو يرثها ولا يرثها الأوّل‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ يرثها‏.‏

وقد جعل بعض الحنابلة التّخيير للمرأة‏,‏ فإن شاءت اختارت الأوّل‏,‏ وإن شاءت اختارت الثّاني‏,‏ وأيّهما اختارت‏,‏ ردّت على الآخر ما أخذت منه‏.‏

ثانياً‏:‏ بالنّسبة لأمواله

26 - للفقهاء في هذه المسألة خلاف‏:‏

ذهب الحنفيّة إلى أنّ المفقود إن عاد حياً‏,‏ فإنّه لا يرجع على زوجته وأولاده بما أنفقوه بإذن القاضي وإن باعوا شيئاً من الأعيان ضمنوه‏.‏

ويأخذ أيضاً ما بقي في أيدي الورثة من أمواله‏,‏ ولا يطالب بما ذهب‏,‏ سواء أظهر حياً قبل الحكم باعتباره ميّتاً‏,‏ أم بعده‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة بأنّه يرجع بجميع تركته‏,‏ ولو بعد تقسيمها على الورثة‏.‏

وعند الحنابلة يأخذ المفقود ما وجد من أعيان أمواله وأمّا ما تلف‏,‏ فإنّه مضمون على الورثة في الرّواية الصّحيحة في المذهب‏,‏ وفي الرّواية الأخرى غير مضمونٍ‏,‏ وقد اختارها جماعة منهم‏.‏

مُفْلِس

انظر‏:‏ إفلاس‏.‏

مَفْهُوم

التّعريف

1 - المفهوم‏:‏ هو ما دلّ عليه اللّفظ لا في محلّ النطق‏,‏ أي يكون حكماً لغير المذكور‏,‏ وحالاً من أحواله‏,‏ كتحريم ضرب الوالدين المفهومة حرمته من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ‏}‏ الدّالّ منطوقاً على تحريم التّأفيف‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المنطوق‏:‏

2 - المنطوق‏:‏ هو ما دلّ عليه اللّفظ على ثبوت حكم المذكور مطابقةً‏,‏ أو تضمناً‏,‏ أو التزاماً‏,‏ أي يكون حكماً للمذكور وحالاً من أحواله‏.‏

والصّلة بين المفهوم والمنطوق‏:‏ أنّ كليهما من أقسام الدّلالة‏,‏ وقيل‏:‏ من أقسام المدلول‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - يختلف حكم المفهوم باختلاف قسميه‏:‏ مفهوم الموافقة‏,‏ ومفهوم المخالفة وذلك على النّحو التّالي‏:‏

أ - مفهوم الموافقة‏:‏

4 - مفهوم الموافقة‏:‏ أن يكون المسكوت عنه موافقاً للمنطوق به في الحكم‏,‏ كدلالة النّهي عن التّأفيف على حرمة الضّرب‏,‏ وهذا يسمّى عند الحنفيّة بدلالة النّصّ‏.‏

وهو حجّة اتّفاقاً كما ذكره ابن عابدين‏,‏ وقال الشّوكاني نقلاً عن القاضي أبي بكرٍ الباقلانيّ‏:‏ القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه‏.‏

ثمّ مفهوم الموافقة إن كان أولى بالحكم من المنطوق به يسمّى فحوى الخطاب‏,‏ كالمثال السّابق‏,‏ لأنّ الضّرب أشد من التّأفيف في الإيذاء‏.‏

وإن كان مساوياً له يسمّى لحن الخطاب‏,‏ كتحريم إحراق مال اليتيم المفهومة حرمته من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً‏}‏ لأنّ تحريم الإحراق مساوٍ لتحريم الأكل المذكور في الآية في الإتلاف‏.‏

ب - مفهوم المخالفة‏:‏

5 - مفهوم المخالفة‏:‏ هو ثبوت نقض حكم المنطوق‏,‏ نفياً كان أو إثباتاً‏,‏ للمسكوت عنه‏,‏ ويسمّى دليل الخطاب أيضاً‏,‏ لأنّ دليله من جنس الخطاب‏,‏ أو لأنّ الخطاب دال عليه‏.‏ والمفاهيم المخالفة بأقسامها حجّة عند الجمهور إلا مفهوم اللّقب‏,‏ قال الجلال المحلّي وابن عبد الشّكور‏:‏ احتجّ بمفهوم اللّقب الدّقّاق والصّيرفي من الشّافعيّة‏,‏ وابن خويزمنداد من المالكيّة‏,‏ وبعض الحنابلة‏,‏ علماً كان أو اسم جنسٍ‏,‏ نحو على زيدٍ حج أي‏:‏ لا على عمرٍو‏,‏ وفي النّعم زكاة أي‏:‏ لا في غيرها‏.‏

وأمّا جمهور الحنفيّة فإنّهم - كما ذكر ابن عابدين نقلاً عن التّحرير - ينفون مفهوم المخالفة بأقسامه في كلام الشّارع فقط‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ أفاد أنّ مفهوم المخالفة في الرّوايات ونحوها معتبر بأقسامه حتّى مفهوم اللّقب‏.‏

وفي أنواع مفهوم المخالفة‏,‏ وشروط العمل به‏,‏ وغير ذلك تفصيل ينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

مُفَوّضَة

التّعريف

1 - المفوّضة في اللغة‏:‏ اسم فاعلٍ من التّفويض‏,‏ والتّفويض جعل الأمر إلى غيره‏,‏ يقال‏:‏ فوّض الأمر إليه أي جعل له التّصرف فيه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هي المرأة الّتي نكحت بلا ذكر مهرٍ‏,‏ أو على أن لا مهر لها‏,‏ وسمّيت مفوّضةً بكسر الواو‏,‏ لتفويضها أمرها إلى الزّوج أو إلى الوليّ بلا مهرٍ‏,‏ أو لأنّها أهملت المهر‏,‏ وتسمّى مفوّضةً بفتح الواو‏,‏ إذا فوّض وليها أمرها إلى الزّوج بلا مهرٍ‏,‏ قال بعض العلماء‏:‏ والفتح أفصح‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الشّغار‏:‏

2 - الشّغار في اللغة‏:‏ من شغر البلد شغوراً إذا خلا عن حافظٍ يمنعه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ أن يزوّج كل واحدٍ صاحبه بنته على أنّ بضع كلّ واحدةٍ صداق الأخرى‏,‏ ولا مهر سوى ذلك فيقبل ذلك‏.‏

والعلاقة بينهما أنّ كلاً منهما يجعل عقد النّكاح بلا مهرٍ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمفوّضة

حكم نكاح المفوّضة

3 - اتّفق الفقهاء على أنّ المهر ليس من أركان عقد النّكاح‏,‏ وأنّ عقد الزّوج يصح بلا مهرٍ‏,‏ فإذا زوّجها وسكت عن تعيين الصّداق حين العقد‏,‏ أو قالت لوليّها أو لزوجها أو لأجنبيّ‏:‏ زوّجني على ما شئت أو نحو ذلك صحّ العقد باتّفاق الفقهاء‏.‏

والأصل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ الآية‏,‏ ولما روي من أنّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه سئل عن رجلٍ تزوّج امرأةً ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتّى مات، فقال رضي الله عنه‏:‏ لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدّة ولها الميراث‏,‏ ولأنّ القصد من النّكاح الاستمتاع والوصلة دون الصّداق‏,‏ فصحّ من غير ذكره كالنّفقة‏.‏

أقسام المفوّضة

قسّم الفقهاء التّفويض إلى ضربين‏:‏

الضّرب الأوّل‏:‏ تفويض البضع

4 - التّفويض ينصرف إلى تفويض البضع عند الإطلاق‏,‏ وهو إخلاء النّكاح عن المهر كأن تأذن المرأة لوليّها أن يزوّجها بغير صداقٍ بقولها له‏:‏ زوّجني بلا مهرٍ‏,‏ وذلك إذا كانت عاقلةً بالغةً رشيدةً ثيّباً كانت أو بكراً‏,‏ فيزوّجها الولي ويسكت عن المهر‏,‏ وهذه الصورة من التّفويض صحيحة باتّفاق الفقهاء‏,‏ أو ينفي المهر بقوله‏:‏ زوّجتك بغير مهرٍ أو زوّجتك بغير مهرٍ لا في الحال ولا في المآل‏,‏ فيصح العقد بهذه الصّيغة عند جمهور الفقهاء‏,‏ للنصوص السّابقة‏,‏ ولأنّ القصد من النّكاح الوصلة والاستمتاع دون الصّداق‏,‏ ولأنّ معنى الصورتين واحد‏.‏

وذهب المالكيّة وهو وجه عند الشّافعيّة إلى بطلان عقد النّكاح في هذه الصورة، لأنّ التزام هذا الشّرط يجعلها كالموهوبة الّتي اختصّ بها النّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ إن وقع - النّكاح بهذه الصورة - فالمشهور أنّه يفسخ النّكاح قبل الدخول بناءً على أنّ فساده من جهة صداقه‏,‏ ويثبت بعد الدخول بصداق المثل‏,‏ ومقابل المشهور قولان‏:‏

الأوّل‏:‏ يفسخ العقد قبل البناء وبعد البناء بناءً على أنّ فساد النّكاح من جهة عقده‏.‏

الثّاني‏:‏ لا يفسخ العقد قبل البناء ولا بعد البناء ويكون لها صداق المثل‏.‏

وهل يفسخ العقد بطلاق‏؟‏ قولان عند المالكيّة الرّاجح منهما أنّه يفسخ - في حال الفسخ - بطلاق‏,‏ لأنّه مختلف فيه‏.‏

وفي كلّ الأحوال يلحق به الولد‏,‏ ويسقط به الحد لوجود الخلاف‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ وفي معنى إسقاط المهر - المذكور في الصورة السّابقة - إرسال المرأة للزّوج مالاً على أن يدفعه لها صداقاً فيفسخ العقد قبل البناء ويثبت بعد البناء بصداق المثل‏,‏ أمّا لو سكتا عن المهر عند العقد أو دخلا على التّفويض باللّفظ أو على تحكيم الغير في بيان قدر المهر فلا فساد‏.‏

وأمّا إذا كانت المفوّضة صغيرةً أو مجنونةً أو غير رشيدةٍ كأن تكون سفيهةً محجوراً عليها فلا يصح تفويضها‏.‏

وإذا زوّج الأب ابنته المجبرة بغير صداقٍ صحّ النّكاح وبطل التّفويض في الأظهر عند الشّافعيّة وكان لها مهر المثل بالعقد‏.‏

وذهب الحنابلة هو وجه عند الشّافعيّة إلى صحّة النّكاح والتّفويض‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ إذا فوّض الولي نكاحها بغير إذنها فعلى ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الولي ممّن لا ينكح إلا بإذن كسائر الأولياء مع الثّيّب وغير الأب مع البكر‏,‏ فإن لم يستأذنها في النّكاح ولا في التّفويض كان النّكاح باطلاً‏,‏ فإن استأذنها في النّكاح ولم يستأذنها في التّفويض صحّ النّكاح وبطل التّفويض‏,‏ وكان لها بالعقد مهر المثل‏.‏ والضّرب الثّاني‏:‏ أن يكون الولي ممّن يصح أن ينكح من غير إذنٍ كالأب مع بنته البكر فالنّكاح صحيح بغير إذنها فأمّا صحّة التّفويض بغير إذنها فمعتبر باختلاف القولين في الّذي بيده عقدة النّكاح‏,‏ فإن قيل‏:‏ إنّه الزّوج دون الأب بطل تفويض الأب‏,‏ وإن قيل‏:‏ إنّه الأب ففي صحّة تفويضه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول أبي إسحاق المروزيّ‏:‏ أنّه باطل ولها بالعقد مهر المثل‏.‏

والوجه الثّاني‏:‏ هو قول أبي عليّ بن أبي هريرة‏:‏ أنّه صحيح كالعقود وليس لها بالعقد مهر‏.‏

وقال النّووي رحمه اللّه تعالى‏:‏ لو زوّجها الولي ونفى المهر من غير أن ترضى هي بمهر المثل‏,‏ فهو كما لو نقص عن مهر المثل‏,‏ فإن كان الولي مجبراً فهل يبطل النّكاح‏؟‏ أم يصح بمهر المثل‏؟‏ قولان‏.‏

وإن كان الولي غير مجبرٍ فهل يبطل قطعاً أم على القولين‏؟‏ فيه طريقان‏.‏

ولو أنكحها وليها على أن لا مهر لها ولا نفقة أو على أن لا مهر لها وتعطي زوجها ألفاً فهذا أبلغ في التّفويض‏,‏ ولو قالت لوليّها‏:‏ زوّجني بلا مهرٍ فزوّجها بمهر المثل من نقد البلد صحّ المسمّى وإن زوّجها بدون مهر المثل أو بغير نقد البلد لم يلزم المسمّى وكان كما لو أنكحها تفويضاً‏.‏

الضّرب الثّاني‏:‏ تفويض المهر

5 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يصح النّكاح إذا زوّجها على ما شاءت هي أو على ما شاء الزّوج‏,‏ أو على ما شاء الولي أو على ما شاء أجنبي‏:‏ أي أن يجعل الصّداق إلى رأي أحد الزّوجين أو رأي الوليّ‏,‏ أو رأي أجنبيٍّ بقوله‏:‏ زوّجتك على ما شئت أو على ما شئنا‏,‏ أو على ما شاء زيد‏,‏ أو زوّجتك على حكمها أو على حكمك أو على حكمي‏,‏ أو على حكم زيدٍ‏,‏ ونحو ذلك‏,‏ فالنّكاح صحيح في جميع هذه الصور ويجب مهر المثل لأنّها لم تأذن في تزويجها إلا على صداقٍ لكنّه مجهول فسقط لجهالته ووجب مهر المثل‏,‏ والتّفويض الصّحيح كما قال ابن قدامة‏:‏ أن تأذن المرأة الجائزة للتّصرف لوليّها في تزويجها بغير مهرٍ‏,‏ أو بتفويض قدره أو يزوّجها أبوها كذلك - أي بغير مهرٍ - فأمّا إن زوّجها غير أبيها ولم يذكر مهراً بغير إذنها في ذلك فإنّه يجب مهر المثل‏.‏

قال الإمام النّووي رحمه اللّه‏:‏ لو قالت لوليّها‏:‏ زوّجني وسكتت عن المهر فالّذي ذكره الإمام وغيره أنّ هذا ليس بتفويض لأنّ النّكاح يعقد غالباً بمهر فيحمل الإذن على العادة فكأنّها قالت‏:‏ زوّجني بمهر‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وفي بعض كتب العراقيّين ما يقتضي كونه تفويضاً‏.‏

فإذا أطلقت الإذن - أي سكتت عن المهر - وزوّجها الولي ولم يسمّ لها في العقد مهراً‏,‏ ولا شرط فيه أن ليس لها مهراً‏,‏ فقد اختلف أصحاب الشّافعيّ هل يكون نكاح تفويضٍ أم لا‏؟‏ على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو قول أبي إسحاق المروزيّ أنّه ليس بنكاح تفويضٍ‏,‏ لعدم الشّرط في سقوط المهر ويكون مهر المثل مستحقاً بالعقد‏,‏ قال النّووي رحمه اللّه تعالى‏:‏ وليس النّكاح في هذه الصور خالياً عن المهر وليس هذا التّفويض بالتّفويض الّذي عقدنا له الباب‏.‏

الثّاني‏:‏ وهو قول أبي عليّ بن أبي هريرة أنّه نكاح تفويضٍ‏,‏ لأنّ إسقاط ذكر المهر في العقد كاشتراط سقوطه في العقد‏,‏ فعلى هذا لا مهر لها بالعقد إلا أن تتعقّبه أحد أمورٍ أربعةٍ هي‏:‏

إمّا‏:‏ بأن يفرضاه عن مراضاةٍ‏,‏ وإمّا‏:‏ بأن يفرضه الحاكم بينهما‏,‏ وإمّا بالدخول بها‏,‏ وإمّا بالموت‏,‏ كما يأتي تفصيله لاحقاً‏.‏

ما تستحقه المفوّضة من الصّداق

6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يجب للمفوّضة مهر‏:‏ إمّا بنفس العقد‏,‏ أو بغيره على خلافٍ بين الفقهاء كما سيأتي‏,‏ وأنّه لا يخلو نكاح في دار الإسلام عن مهرٍ وأنّ المفوّضة تستحق هذا المهر بأحد أمورٍ أربعةٍ‏:‏

أوّلها‏:‏ أن يفرض أحد الزّوجين المهر برضاء الآخر قبل الدخول فهذا المفروض حكمه حكم المهر المسمّى في العقد فيتشطّر بالطّلاق ويتأكّد بالدخول وبالموت ولها حبس نفسها لتسليمه‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يفرضه القاضي بينهما وذلك عند تنازعهما في قدر المفروض أو عندما يمتنع الزّوج من الفرض فيفرض مقدار مهر المثل لأنّ وظيفته فصل الخصومات ولا يتوقّف ما يفرضه القاضي على رضاهما‏,‏ لأنّه حكم إلا أنّه لا يزيد عن مهر مثلها‏,‏ لأنّ الزّيادة عن مهر المثل ميل على الزّوج‏,‏ ولا ينقص عن مهر المثل‏,‏ لأنّ النقصان عن مهر المثل ميل على الزّوجة ولا يحل الميل لأحد الخصمين‏,‏ ولأنّه إنّما يفرض بدل البضع‏,‏ فيقدّر بقدره كسلعة أتلفت يقوّمها بما يقول به أهل الخبرة‏,‏ قال البهوتي‏:‏ فلا يغيّره حاكم آخر ما لم يتغيّر السّبب كيساره وإعساره في النّفقة والكسوة‏,‏ فإنّ الحاكم يغيّره ويفرضه ثانياً باعتبار الحال‏,‏ وليس ذلك نقضاً للحكم السّابق‏,‏ وبذلك يشترط للقاضي عند فرضه لمهر المثل علمه بقدر مهر مثلها حتّى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه لكن الشّافعيّة نصوا على أنّه يغتفر الزّيادة أو النّقص اليسير الواقع في محلّ الاجتهاد الّذي يحتمل مثله في قدر مهر المثل‏,‏ وقال الشّربيني الخطيب ما معناه‏:‏ منع الزّيادة والنّقص وإن رضي الزّوجان وهو كذلك‏,‏ لأنّ منصبه يقتضي ذلك ثمّ إن شاءا بعد ذلك فعلا ما شاءا‏,‏ واختار الأذرعي الجواز‏.‏

وما فرضه القاضي من مهر المثل كالمسمّى في العقد أيضاً فيتنصّف بالطّلاق قبل الدخول ولا تجب المتعة معه‏,‏ لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ‏}‏‏.‏

ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يصح فرض أجنبيٍّ بغير إذن الزّوجين لأنّه ليس بزوج ولا حاكمٍ‏,‏ ولأنّ هذا فيه خلاف كلٍّ يقتضيه العقد فإذا فرض أجنبي للمفوّضة مهراً يعطيه من مال نفسه لم يصحّ وإن رضيت على الأصحّ عند الشّافعيّة‏,‏ ومقابل الأصحّ يصح كما يصح أن يؤدّي الصّداق عن الزّوج بغير إذنه‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ فرض الأجنبيّ كفرض الزّوج ويسمون هذا تحكيماً‏,‏ فإن فرض مهر المثل لزمهما ولا يلزمه فرضه ابتداءً‏,‏ وإن فرض أقلّ منه لزمه دون الزّوجة‏,‏ وإن فرض المحكّم أكثر منه فعلى العكس أي لزمها دونه فهو مخيّر بين الرّضا وعدمه‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يدخل بها، فقد ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا دخل بالمفوّضة وجب لها مهر المثل وإن أذنت له في وطئها بشرط أن لا مهر لها‏,‏ لأنّ الوطء لا يباح بالإباحة‏,‏ لما فيه من حقّ اللّه‏,‏ ولأنّ الوطء في دار الإسلام لا يخلو من مهرٍ أو حدٍّ‏,‏ ولتخرج بالتزام المهر ممّا خصّ به نبي اللّه صلى الله عليه وسلم من نكاح الموهوبة بغير مهرٍ‏,‏ ومن حكم الزّنا الّذي لا يستحق فيه مهر‏,‏ ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لها الصّداق بما استحللت من فرجها»‏.‏

ومثل الدخول في وجوب مهر المثل الخلوة الصّحيحة‏,‏ وذلك عند الحنفيّة والحنابلة والقديم عند الشّافعيّة والخلوة الصّحيحة أن يخلو الزّوج بزوجته بعد العقد الصّحيح بلا مانعٍ حسّيٍّ كمرض لأحدهما يمنع الوطء‏,‏ وبلا مانعٍ طبعيٍّ كوجود شخصٍ ثالثٍ عاقلٍ معهما‏,‏ وبلا مانعٍ شرعيٍّ من أحدهما كإحرام لفرض من حجٍّ أو عمرةٍ‏,‏ قال الحنفيّة‏:‏ ومن المانع الحسّيّ رتق وقرن وعفل‏,‏ وصغر لا يطاق معه الجماع‏.‏

وزاد الحنابلة‏:‏ أنّ المهر يتقرّر كذلك بلمس الزّوجة بشهوة والنّظر إلى فرجها بشهوة‏,‏ وتقبيلها ولو بحضرة النّاس‏,‏ لأنّ ذلك نوع استمتاعٍ فأوجب المهر كالوطء‏,‏ ولأنّه نال منها شيئاً لا يباح لغيره‏,‏ ولمفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ وحقيقة اللّمس التقاء البشرتين‏.‏

أمّا المالكيّة والشّافعيّة في الجديد فلا يستقر عندهم المهر بالخلوة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ الآية‏,‏ والمراد بالمسّ الجماع‏,‏ ولأنّ الخلوة لا تلتحق بالوطء في سائر الأحكام من حدٍّ وغسلٍ ونحوهما‏.‏

الرّابع‏:‏ الموت، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المفوّضة يجب لها مهر المثل إذا مات زوجها أو ماتت هي قبل الفرض وقبل المسيس‏,‏ لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم على ذلك‏,‏ ولأنّ الموت لا يبطل به النّكاح بدليل التّوارث وإنّما هو نهاية له ونهاية العقد كاستيفاء المعقود عليه بدليل الإجارة ومتى استقرّ لم يسقط منه شيء بانفساخ النّكاح ولا غيره‏,‏ قال الحنابلة‏:‏ حتّى ولو قتل أحدهما الآخر‏,‏ أو قتل أحدهما نفسه، لأنّ النّكاح قد بلغ غايته فقام مقام الاستيفاء للمنفعة‏,‏ ونصّ الشّافعيّة على أنّه لو قتلت المرأة زوجها قبل الدخول لم يستقرّ المهر‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ واعلم أنّه إذا ماتا جميعاً فعند أبي حنيفة لا يقضى بشيء وعندهما يقضى بمهر المثل‏.‏

وقال السّرخسي‏:‏ هذا إذا تقادم العهد بحيث يتعذّر على القاضي الوقوف على مهر المثل‏,‏ أمّا إذا لم يتقادم فيقضى بمهر المثل عنده أيضاً‏.‏

وذهب المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة إلى أنّ موت أحد الزّوجين لا يجب به شيء‏.‏

قال الإمام النّووي في الرّوضة‏:‏ إذا مات أحد الزّوجين قبل الفرض والمسيس فهل يجب مهر المثل أم لا يجب شيء‏؟‏ فيه خلاف مبني على حديث بروع بنت واشقٍ أنّها نكحت بلا مهرٍ‏,‏ فمات زوجها قبل أن يفرض لها فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمهر يفرض لها فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمهر نسائها والميراث‏.‏

والرّاجح ترجيح الوجوب والحديث صحيح، ولا اعتبار بما قيل في إسناده وقياساً على الدخول فإنّ الموت مقرّر كالدخول‏,‏ ولا وجه للقول الآخر مع صحّة الحديث‏.‏

متى تستحق المفوّضة مهر المثل‏؟‏

7 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ للمفوّضة قبل الدخول مطالبة الزّوج بأن يفرض لها مهراً لتكون على بصيرةٍ من تسليم نفسها‏,‏ لأنّ النّكاح لا يخلو من المهر‏,‏ فلها حق المطالبة ببيان قدره‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولا نعلم فيه مخالفاً‏,‏ فإن اتّفق الزّوجان على فرضه جاز ما فرضاه‏,‏ قليلاً كان أو كثيراً سواء كانا عالمين بقدر مهر المثل أو غير عالمين به، لأنّه إذا فرض لها كثيراً فقد بذل لها من ماله فوق ما يلزمه‏,‏ وإن رضيت باليسير‏,‏ فقد رضيت بدون ما يجب لها فلا تمنع من ذلك‏,‏ عن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لرجل‏:‏ «أترضى أن أزوّجك فلانة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وقال للمرأة‏:‏ أترضين أن أزوّجك فلاناً‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فزوّج أحدهما صاحبه فدخل بها الرّجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً، وكان ممّن شهد الحديبية وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلمّا حضرته الوفاة قال‏:‏ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زوّجني فلانة ولم يفرض لها صداقاً، ولم أعطها شيئاً وإنّي أشهدكم أنّي قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهماً فباعته بمائة ألفٍ»‏.‏

فأمّا إن تشاحّا فيه ففرض لها مهر مثلها أو أكثر منه فليس لها المطالبة بسواه‏,‏ فإن لم ترض به لم يستقرّ لها حتّى ترضاه‏,‏ فإن طلّقها قبل الدخول فليس لها إلا المتعة‏,‏ لأنّه لم يثبت لها بفرضه ما لم ترض به كحالة الابتداء‏,‏ وإن فرض لها أقلّ من مهر المثل فلها المطالبة بتمامه ولا يثبت لها ما لم ترض به‏,‏ وإن تشاحّا رفعا إلى القاضي‏,‏ وفرض لها مهر المثل كما سبق‏.‏

أمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ إنّ للمفوّضة طلب تقدير قدر المهر في نكاح التّفويض قبل البناء ويكره لها تمكينه من نفسها قبل البناء إلا أنّه يلزمها الرّضا بما فرض لها الزّوج إن فرض لها مهر المثل أو أكثر‏,‏ أمّا إن فرض لها بأقلّ من مهر مثلها فلا يلزمها الرّضا به‏,‏ فإن رضيت به جاز إذا كانت رشيدةً رشّدها مجبرها بعد بلوغها وتجربتها بحسن تصرفها في المال بشهادة عدلين على رفع حجره عنها وإطلاق التّصرف لها ولو كان ذلك بعد الدخول‏,‏ كما يجوز للأب أن يرضى بأقلّ من مهر مثلها بالنّسبة لغير الرّشيدة‏,‏ وإن كان ذلك بعد الدخول أيضاً‏,‏ وكذلك يجوز لوصيّ الأب أن يرضى بأقلّ من مهر مثل محجورته بشرط أن يكون ذلك قبل الدخول‏,‏ وبشرط أن يكون هذا صلاحاً لها كأن كان راجياً حسن عشرة زوجها لها‏,‏ ولا يجوز لوليّ البكر المهملة الّتي مات أبوها ولم يوص عليها ولم يقدّم القاضي عليها مقدّماً يتصرّف لها الرّضا بأقلّ من مهر مثلها‏.‏

وقالوا إذا لم يرض الزّوج بما فرض لها فله تطليقها ولا شيء عليه عند ذلك‏.‏

وللمفوّضة عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة حبس نفسها عن الزّوج ليفرض لها مهراً ولها كذلك حبس نفسها عنه لتسليم المفروض إذا كان حالاً كالمسمّى في العقد‏,‏ أمّا إذا كان المفروض مؤجّلاً فليس لها حبس نفسها عنه لتسليمه كالمهر المسمّى في العقد إذا كان مؤجّلاً أيضاً‏.‏

وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه ليس لها حبس نفسها عن زوجها لتسليم المفروض لأنّها سامحت بالمهر فكيف تضايق في تقديمه‏.‏

8 - واختلف الفقهاء في وقت استحقاق المفوّضة للمهر فذهب الحنفيّة والحنابلة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة إلى أنّ المفوّضة يجب لها المهر بنفس العقد‏,‏ ولذلك يحق لها ولاية المطالبة بفرضه‏,‏ وولاية المطالبة بتسليم المفروض‏,‏ ولأنّه لو لم يجب بنفس العقد لما استقرّ بالموت كما في العقد الفاسد‏,‏ ولأنّ النّكاح لا يجوز أن يخلو عن المهر والقول بعدم وجوبه يفضي إلى خلوّه عنه‏,‏ ولأنّ ملك النّكاح لم يشرع لعينه‏,‏ بل لمقاصد لا حصول لها إلا بالدّوام على النّكاح والقرار عليه‏,‏ ولا يدوم إلا بوجوب المهر بنفس العقد‏,‏ لما يجري بين الزّوجين من الأسباب الّتي تحمل الزّوج على الطّلاق من الوحشة والخشونة فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزّوج عن إزالة هذا المذهب بأدنى خشونةٍ تحدث بينهما‏,‏ لأنّه لا يشق عليه إزالته لمّا لم يخف لزوم المهر‏,‏ فلا تحصل المقاصد المطلوبة من النّكاح‏,‏ ولأنّ مصالح النّكاح ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة‏,‏ ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزةً مكرّمةً عند الزّوج ولا عزّة إلا بانسداد طريق الوصول إليها بمال له خطر عنده‏,‏ لأنّ ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعز به إمساكه وما يتيسّر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه‏,‏ ومتى هانت المرأة في أعين الزّوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة‏,‏ فلا تحصل مقاصد النّكاح‏,‏ ولأنّ الملك ثابت في جانبها إمّا في نفسها‏,‏ وإمّا في المتعة وأحكام الملك في الحرّة تشعر بالذلّ والهوان‏,‏ فلا بدّ وأن يقابله مال له خطر‏,‏ لينجبر الذل من حيث المعنى‏,‏ ولأنّها إذا طلبت الفرض من الزّوج يجب عليه الفرض حتّى لو امتنع فالقاضي يجبره على ذلك ولو لم يفعل ناب القاضي منابه في الفرض‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأظهر عندهم إلى أنّه لا يجب للزّوجة المفوّضة مهر على زوجها بنفس العقد لأنّ القرآن دلّ على أنّه لا يجب لها إذا طلقت قبل المسيس إلا المتعة‏,‏ ولأنّه لو وجب لها مهر بنفس العقد لتشطّر بالطّلاق قبل الدخول كالمسمّى الصّحيح‏.‏

قال الماورديّ‏:‏ لم يجب للمفوّضة بالعقد مهر‏,‏ لاشتراطه سقوطه‏,‏ ولا لها أن تطالب بمهر‏,‏ لأنّه لم يجب لها بالعقد مهر ولكن لها أن تطالب بأن يفرض لها مهراً إمّا بمراضاة الزّوجين أو بحكم الحاكم فيصير المهر بعد الفرض كالمسمّى في العقد‏,‏ ويفهم من كلام المالكيّة أنّهم يرون مثل مذهب الشّافعيّة حيث نصوا على أنّه يجوز للزّوج إذا فرض المحكّم لها مهر المثل ولم يرض أن يطلّقها ولا شيء عليه‏,‏ ممّا يدل على أنّه لم يجب لها مهر بنفس العقد‏.‏

تنصيف مهر المفوّضة إذا طلقت قبل الدخول

9 - اختلف الفقهاء في انتصاف ما فرض للمفوّضة إذا طلقت قبل الدخول وذلك بعد ما اتّفقوا على أنّه إذا طلّقها قبل الدخول وقبل الفرض فلا يجب لها شيء من المهر‏,‏ لمفهوم قولـه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يتنصّف ما فرض للمفوّضة إذا طلّقها قبل الدخول كالمهر المسمّى في العقد بشرط أن يكون سبب الفرقة من الزّوج لا من الزّوجة وبشرط أن يكون المفروض صحيحاً‏,‏ سواء كان النهوض من الزّوجين أو من الحاكم لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ الآية‏,‏ ولأنّ هذا مهر وجب قبل الطّلاق‏,‏ فوجب أن يتنصّف كما لو سمّاه‏.‏

وذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّه لا ينصّف المهر المفروض للمفوّضة إذا طلقت قبل الدخول لأنّ عقدها خلا من تسميةٍ فأشبهت الّتي لم يسمّ لها شيء‏,‏ ولأنّ التّنصيف خاص بالمهر المسمّى في العقد بالنّصّ‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏ الآية‏,‏ ولأنّ هذا المفروض تعيين للواجب بالعقد وهو مهر المثل وذلك لا يتنصّف فكذا ما نزّل منزلته‏.‏

وجوب المتعة للمفوّضة إذا طلقت قبل الدخول

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا طلقت المفوّضة قبل الدخول بها وقبل أن يفرض لها مهر فلا تستحق على زوجها شيئاً إلا المتعة‏,‏ واختلفوا في وجوب المتعة لها إذا كانت الفرقة من جهة الزّوج لا من جهتها‏:‏

فذهب الجمهور وهم الحنفيّة والشّافعيّة في الجديد والحنابلة إلى وجوب المتعة لها إذا طلقت قبل الدخول وقبل أن يفرض لها شيء وذلك إذا كانت الفرقة من جهة الزّوج كأن يطلّق أو يلاعن أو يفسخ العقد من قبلها بسبب الجبّ والعنّة والرّدّة منه وإبائه الإسلام وتقبيله ابنتها‏,‏ أو أمّها عند من يرى ذلك‏.‏

أمّا إذا كان السّبب من جهتها فلا متعة لها عندهم لا وجوباً ولا استحباباً‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة في القديم إلى أنّ المتعة ليست واجبةً للمفوّضة‏.‏

وسبب الخلاف يعود إلى اختلافهم في تفسير بعض الألفاظ الواردة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏تفويض ف 8‏,‏ متعة الطّلاق ف 2‏)‏‏.‏

ما يراعى عندما يفرض للمفوّضة مهر

11 - اختلف الفقهاء في أيّ حالٍ من أحوال المفوّضة يعتبر عند فرض مهر المثل لها‏,‏ هل في حالها عند عقد النّكاح‏,‏ لأنّه المقتضي للوجوب‏,‏ أو في حالها عند الوطء‏,‏ لأنّه وقت الوجوب عند بعض الفقهاء‏,‏ أم يعتبر حالها من العقد إلى الوطء‏,‏ لأنّ البضع دخل بالعقد في ضمان الزّوج واقترن به الإتلاف فوجب أكثر مهر مثلها من وقت عقدها إلى أن يطأها زوجها كالمقبوض بشراء فاسدٍ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏مهر‏)‏‏.‏

مَقَادِير

التّعريف

1 - المقادير جمع مقدارٍ‏,‏ ومقدار الشّيء في اللغة‏:‏ مثله في العدد أو الكيل أو الوزن أو المساحة‏.‏

والمقادير في الاصطلاح‏:‏ ما يعرف به الشّيء من معدودٍ أو مكيلٍ أو موزونٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الجزاف‏:‏

2 - الجزاف في اللغة‏:‏ الشّيء لا يعلم كيله ولا وزنه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ الأخذ بكثرة من غير تقديرٍ‏.‏

والجزاف في البيع‏:‏ هو بيع ما يكال أو يوزن أو يعد جملةً بلا كيلٍ ولا وزنٍ ولا عدٍّ‏.‏ فالجزاف نقيض المقدار‏.‏

أجناس المقادير

3 - المقادير أجناس أربعة هي‏:‏ الكيل والوزن والذّرع والعدد‏,‏ وهي كلها وسائل لتقدير الأشياء والأموال أو معايرتها بها‏,‏ فالكيل لتقدير الحجم‏,‏ والوزن لتقدير الثّقل‏,‏ والذّرع لتقدير الطول‏,‏ والمساحة والعدد لتقدير الآحاد أو الأفراد‏.‏

وبيان هذه الأجناس فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ المكاييل

4 - الوحدة الأساسيّة الأشهر في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمكاييل هي المد والصّاع‏,‏ وكلّ ما سوى ذلك من المكاييل المعتمد عليها إنّما هو جزء منها أو ضعف لها‏,‏ قال أبو عبيدٍ‏:‏ وجدنا الآثار قد نقلت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتّابعين بعدهم بثمانية أصنافٍ من المكاييل‏:‏ الصّاع‏,‏ والمدّ، والفرق‏,‏ والقسط‏,‏ والمدي‏,‏ والمختوم‏,‏ والقفيز‏,‏ والمكوك‏,‏ إلا أنّ معظم ذلك في المدّ والصّاع‏.‏

ولو أنّ الفقهاء اتّفقوا في مقدار المدّ والصّاع لاتّفقوا في كلّ المقادير الكيليّة الأخرى‏,‏ إلا أنّهم لم يتّفقوا فيهما‏.‏

وأهم المكاييل الشّرعيّة مرتّبة على حروف الهجاء ما يلي‏:‏

أ - الإردب‏:‏

5 - الإردب بفتح الدّال وضمّها في اللغة‏:‏ مكيال ضخم بمصر يسع أربعةً وستّين مناً‏,‏ وذلك أربعة وعشرون صاعاً‏,‏ والجمع أرادب‏.‏

ولا يرتبط بالإردبّ بعينه أي من الأحكام الشّرعيّة‏.‏

ب - الصّاع‏:‏

6 - الصّاع‏,‏ والصواع‏,‏ والصَّوْع‏,‏ في اللغة‏:‏ ما يكال به‏,‏ وهو مفرد جمعه أصوع‏,‏ وأصؤع‏,‏ وأصواع‏,‏ وصوع وصيعان‏.‏

والصّاع في اصطلاح الفقهاء‏:‏ مكيال يكال به في البيع والشّراء وتقدّر به كثير من الأحكام الشّرعيّة، وقيل‏:‏ هو إناء يشرب فيه‏.‏

قال الفيومي‏:‏ هو مكيال‏,‏ وصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّذي بالمدينة أربعة أمدادٍ‏,‏ وذلك خمسة أرطالٍ وثلث بالبغداديّ‏,‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الصّاع ثمانية أرطالٍ‏.‏

أنواع الصّيعان

7 - اشتهر في الصّيعان لدى الفقهاء صاعان الأوّل‏:‏ صاع أهل المدينة‏,‏ ويسمّى بالصّاع الحجازيّ‏,‏ والثّاني‏:‏ صاع أهل العراق‏,‏ ويسمّى بالصّاع الحجّاجيّ‏,‏ أو القفيز الحجّاجيّ‏,‏ أو الصّاع البغداديّ‏,‏ والأوّل أصغر من الثّاني‏,‏ وقد نصب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّاع الشّرعيّ الّذي تقدّر به الأحكام الشّرعيّة المنوطة بالصّاع هو الصّاع الأصغر‏.‏

مقدار الصّاع الشّرعيّ

8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّاع أربعة أمدادٍ‏,‏ إلا أنّهم اختلفوا في المدّ‏,‏ فذهب أهل العراق إلى أنّ المدّ رطلان بالعراقيّ‏,‏ وذهب أهل المدينة إلى أنّ المدّ رطل وثلث بالعراقيّ‏,‏ وعليه فإنّ صاع أهل المدينة يتّسع لخمسة أرطالٍ وثلثٍ بالرّطل العراقيّ‏,‏ وصاع أهل العراق يتّسع لثمانية أرطالٍ بالرّطل العراقيّ نفسه‏.‏

وقد ذهب الجمهور إلى أنّ الصّاع الشّرعيّ هو صاع المدينة‏,‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّ صاع العراق هو الصّاع الشّرعي وهو المسمّى بالحجّاجيّ‏,‏ واضطربت الرّواية عن أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة‏.‏

قال أبو عبيدٍ‏:‏ وقد كان يعقوب - أبو يوسف - زماناً يقول كقول أصحابه فيه‏,‏ ثمّ رجع عنه إلى قول أهل المدينة‏.‏

وللتّفصيل وبيان أحكام الصّاع‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ صاع ف 7‏)‏‏.‏

ما يناط بالصّاع من الأحكام الشّرعيّة

9 - تتعلّق بالصّاع أحكام شرعيّة كثيرة منها‏:‏

زكاة الفطر‏,‏ وكفّارة الإفطار العامد في رمضان‏,‏ وكفّارة الظّهار‏,‏ وفدية الإحرام‏,‏ وكفّارة الإفطار في رمضان لعذر مبيحٍ‏,‏ وكفّارة تأخير قضاء الصّوم‏,‏ ونفقة الزّوجة‏,‏ ومقدار الماء الّذي يتوضّأ أو يغتسل به‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلحاتها من الموسوعة‏.‏

ج - العَرَق‏:‏

10 - من معاني العَرَق في اللغة بفتح العين والرّاء‏:‏ ضفيرة تنسج من خوصٍ‏,‏ وهو المكتل والزّبيل أو الزّنبيل‏,‏ ويقال‏:‏ إنّه يسع خمسة عشر صاعاً‏.‏

والعَرَق في اصطلاح الفقهاء‏:‏ مكيل يسع خمسة عشر صاعاً‏.‏

ما يناط بالعَرَق من الأحكام الشّرعيّة

11 - لا يعيّر الفقهاء بالعرق أياً من الأحكام الشّرعيّة‏,‏ وقد يذكرونه على أنّه من مضاعفات الصّاع كما تقدّم‏.‏

د - الفَرق‏:‏

12 - الفرق - بتسكين الرّاء أو فتحها وهو الأصح - من معانيه في اللغة‏:‏ مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصعٍ‏,‏ أو يسع ستّة عشر رطلاً‏,‏ أو أربعة أرباعٍ‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء هو ستّة أقساطٍ‏,‏ أو ثلاثة آصعٍ‏,‏ قال أحمد في رواية أبي داود‏:‏ قال الزهري الفرق ستّة عشر رطلاً‏,‏ وهو مذهب الحنابلة‏,‏ وقال ابن حامدٍ‏:‏ الفرق ستون رطلاً‏,‏ فإنّه يروى أنّ الخليل بن أحمد قال‏:‏ الفرْق بإسكان الرّاء مكيال ضخم من مكاييل أهل العراق‏,‏ وقيل هو مائة وعشرون رطلاً‏,‏ وقال أبو عبيدٍ‏:‏ لا اختلاف بين النّاس أعلمه في ذلك أنّ الفرق ثلاثة آصعٍ‏,‏ وفيه أحاديث تفسّره‏,‏ ثمّ ذكر أحاديث في ذلك‏,‏ منها ما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة حين حلق رأسه عند الإحرام‏:‏ «صم ثلاثة أيّامٍ أو تصدّق بفرق بين ستّةٍ أو أنسك بما تيسّر»‏,‏ ثمّ قال‏:‏ والفرق ثلاثة آصعٍ والصّاع أربعة أمدادٍ‏,‏ فذلك اثنا عشر مداً‏.‏

ما يناط بالفرق من الأحكام الشّرعيّة

13 - يتعلّق بالفرق من الأحكام ما يتعلّق بالصّاع لأنّه من مضاعفاته‏,‏ إلا أنّ أكثر ما يذكره الفقهاء في زكاة العسل‏,‏ قال ابن قدامة‏:‏ نصاب العسل عشرة أفراقٍ‏,‏ وهذا قول الزهريّ‏,‏ وجهه ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ ناساً سألوه فقالوا‏:‏ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قطع لنا وادياً باليمن فيه خلايا من نحلٍ، وإنّا نجد ناساً يسرقونها فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه إن أدّيتم صدقتها من كلّ عشر أفراقٍ فرقاً حميناها لكم‏.‏

وعن محمّد بن الحسن رحمه اللّه أنّ نصاب العسل خمسة أفراقٍ‏,‏ كل فرقٍ ستّة وثلاثون رطلاً‏,‏ لأنّه أقصى ما يقدّر به‏.‏

‏(‏ر‏:‏ صاع ف 5‏,‏ وزكاة ف 118‏)‏‏.‏

هـ - القَدَح‏:‏

14 - القدح بالتّحريك في اللغة‏:‏ إناء يروي الرّجلين‏,‏ أو اسم يجمع الصّغار والكبار‏,‏ وهو مفرد يجمع على أقداحٍ‏.‏

والقدح في اصطلاح الفقهاء من أجزاء الصّاع‏,‏ قال الشّربيني‏:‏ فالصّاع قدحان إلا سبعي مدٍّ‏,‏ وكل خمسة عشر مداً سبعة أقداحٍ‏.‏

وورد عن عائشة أنّها قالت‏:‏ «كنت أغتسل أنا والنّبي صلى الله عليه وسلم في إناءٍ واحدٍ من قدحٍ يقال له الفرق»‏,‏ قال أبو عبيدٍ‏:‏ وذلك اليوم نحو من خمسة أمدادٍ‏.‏

ما يناط بالقدح من الأحكام الشّرعيّة

15 - يتعلّق بالقدح من الأحكام ما يتعلّق بالصّاع لأنّه جزء منه وقد يذكره بعض الفقهاء باسمه في تعيين بعض الأنصبة‏,‏ من ذلك ما ذكره الشّربيني في نصاب الزّرع فقال‏:‏ فالنّصاب على قول السبكيّ خمسمائةٍ وستون قدحاً‏,‏ وعلى قول القموليّ ستمائةٍ‏,‏ وقول القموليّ أوجه‏,‏ وإن قال بعض المتأخّرين‏:‏ إنّ قول السبكيّ أوجه‏,‏ لأنّ الصّاع قدحان تقريباً‏.‏

و - القِربة‏:‏

16 - القِربة في اللغة بكسر القاف‏:‏ ظرف من جلدٍ يخرز من جانبٍ واحدٍ‏,‏ وتستعمل لحفظ الماء واللّبن ونحوهما‏.‏

وفي الاصطلاح قال الشّربيني الخطيب‏:‏ الغالب أنّ القربة لا تزيد على مائة رطلٍ بغداديٍّ‏,‏ وهو مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهمٍ في الأصحّ‏.‏

ز - القسط‏:‏

17 - من معاني القسط في اللغة‏:‏ أنّه مكيال يسع نصف صاعٍ‏.‏

وقد روت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «كنت أغتسل أنا والنّبي صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ من قدحٍ يقال له الفرق»‏,‏ قال أبو عبيدٍ‏:‏ والفرق ستّة أقساطٍ‏,‏ ثمّ قال‏:‏ وذلك أنّ القسط نصف صاعٍ‏,‏ وتفسيره في الحديث نفسه حين ذكر الفرق فقال‏:‏ وهو ستّة أقساطٍ‏.‏

ح - القفيز‏:‏

18 - القفيز في اللغة‏:‏ مكيال‏,‏ وهو ثمانية مكاكيك‏,‏ وهو مفرد يجمع على أقفزةٍ وقفزانٍ‏.‏

كما يطلق القفيز على مساحةٍ من الأرض قدرها مائة وأربعة وأربعون ذراعاً‏,‏ أو عشر جريبٍ‏.‏

وفي الاصطلاح قال القليوبي‏:‏ القفيز مكتل يسع من الحبّ اثني عشر صاعاً‏,‏ ثمّ قال‏:‏ والقفيز من الأرض مسطّح ضرب قصبةٍ في عشر قصباتٍ‏,‏ وهو عشر الجريب‏.‏

وقال الكمال بن الهمام‏:‏ إنّ القفيز ثمانية مكاكيك‏,‏ وقال ابن عابدين‏:‏ إنّ القفيز الهاشميّ صاع واحد‏,‏ وهو القفيز الّذي ورد عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه كما في الهداية وهو ثمانية أرطالٍ‏,‏ أربعة أمناءٍ‏,‏ وهو صاع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏,‏ وينسب إلى الحجّاج‏,‏ فيقال صاع حجّاجي‏,‏ لأنّ الحجّاج أخرجه بعدما فقد‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ والقفيز ثلاثمائةٍ وستون ذراعاً مكسّرةً‏,‏ وهو عشر الجريب‏.‏

وقال ابن مفلحٍ‏:‏ وقدر القفيز ثمانية أرطالٍ بالمكّيّ نصّ عليه واختاره القاضي، فيكون ستّة عشر رطلاً بالعراقيّ‏,‏ وقال أبو بكرٍ‏:‏ قد قيل قدره ثلاثون رطلاً‏,‏ وهو القفيز الهاشمي‏,‏ وقدّم في المحرّر أنّ القفيز ثمانية أرطالٍ وهو صاع عمر رضي الله عنه‏,‏ فغيّره الحجّاج‏,‏ نصّ عليه‏,‏ وذلك ثمانية أرطالٍ بالعراقيّ، وهو المسمّى بالقفيز الحجّاجيّ‏.‏

ط - القُلّة‏:‏

19 - القُلّة بضمّ القاف في اللغة‏:‏ من معانيها أنّها إناء للعرب كالجرّة الكبيرة شبه الحبّ‏,‏ وجمعها قلال وقلل‏.‏

وقال الفيروز آبادي‏:‏ القُلّة بالضّمّ أعلى الرّأس والسّنام‏,‏ والجبل أو كل شيءٍ‏,‏ والحب العظيم‏,‏ أو الجرّة العظيمة‏,‏ أو عامّة‏,‏ أو من الفخّار‏,‏ والكوز الصّغير‏.‏

والقُلّة اصطلاحاً‏:‏ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة معيار لمقدار معيّن الحجم‏,‏ وقد اتّفقت أقوالهم على أنّ القلّة ما يتّسع لمئتين وخمسين رطلاً‏.‏

كما ضبط القليوبي القلّة بالذّراع فقال‏:‏ والمساحة - أي للقلّتين - على الخمسمائة - أي على القول بأنّهما خمسمائة رطلٍ - ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً بذراع الآدميّ وهو شبران تقريباً‏,‏ ثمّ قال‏:‏ وأمّا مساحتهما في المدوّر كرأس البئر فهي ذراع عرضاً وذراعان ونصف طولاً‏,‏ والمراد بعرضه أطول خطٍّ بين حافّتيه - قطر -‏,‏ وبطوله عمقه‏.‏

ما يناط بالقلّة من الأحكام

20 - لا تذكر القلّة غالباً في الأحكام الشّرعيّة في غير حدّ الماء الرّاكد الكثير الّذي لا ينجس بوضع النّجاسة فيه إلا إذا تغيّرت أحد أوصافه فقد قدّره الشّافعيّة والحنابلة بقلّتين، قال المحلّي‏:‏ ولا تنجس قلّتا الماء بملاقاة نجسٍ لحديث‏:‏ «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» وفي روايةٍ‏:‏ «فإنّه لا ينجس»‏.‏

وقال الخرقيّ‏:‏ وإذا كان الماء قلّتين وهو خمس قربٍ فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة فهو طاهر‏.‏

وقدّر الحنفيّة الكثير بما يستكثره النّاظر‏,‏ أو بما لا تخلص النّجاسة فيه من طرفٍ إلى طرفٍ آخر بحسب الظّنّ غالباً‏,‏ قال الحصكفي‏:‏ والمعتبر في مقدار الرّاكد أكبر رأي المبتلى به فيه‏,‏ فإن غلب على ظنّه عدم خلوص أي وصول النّجاسة إلى الجانب الآخر جاز وإلا لا‏.‏ وعند الحنفيّة تقديره بما مساحة سطحه عشرة أذرعٍ في عشرة أذرعٍ‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ ووزن ذلك الماء بالقلل سبع عشرة قلّةً وثلث خمس قلّةٍ‏.‏

ي - الكُرْ‏:‏

21 - الكُر في اللغة‏:‏ بضمّ الكاف كيل معروف‏,‏ وجمعه أكرار‏,‏ قال الفيومي‏:‏ وهو ستون قفيزاً‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء قال الكمال بن الهمام‏:‏ هو ستون قفيزاً أو أربعون على خلافٍ فيه‏.‏

ما يناط بالكُرّ من الأحكام الشّرعيّة

22 - لا يناط بالكُرّ أي من الأحكام الشّرعيّة‏,‏ وربّما استعمله بعضهم في التّمثيل لبيع المثليّات وما يثبت في الذّمّة‏,‏ قال المرغيناني‏:‏ ومن أسلم في كرّ حنطةٍ فلمّا حلّ الأجل اشترى المسلم إليه من رجلٍ كراً‏,‏ وأمر ربّ السّلم بقبضه قضاءً لم يكن قضاءً‏,‏ وإن أمره أن يقبضه له ثمّ يقبضه لنفسه فاكتاله له ثمّ اكتاله لنفسه جاز‏.‏

ك - الكِيلَجَة‏:‏

23 - الكِيلَجة بكسر الكاف وفتح اللام في اللغة‏:‏ كيل معروف لأهل العراق وهي منّ وسبعة أثمان منّ‏,‏ والمن رطلان‏,‏ وجمعها كيالج وكيالجة‏.‏

ولا يناط بالكيلجة أي من الأحكام الشّرعيّة‏.‏

ل - المخْتُوم‏:‏

24 - المختوم في اللغة‏:‏ هو الصّاع‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء هو الصّاع أيضاً‏,‏ لما روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه رفعه قال‏:‏ «ليس فيما دون خمسة أوسقٍ زكاة» والوسق ستون مختوماً‏,‏ والمختوم هاهنا هو الصّاع بعينه‏,‏ وإنّما سمّي مختوماً لأنّ الأمراء جعلت على أعلاه خاتماً مطبوعاً لئلا يزاد فيه أو ينقص منه‏.‏

ولبيان مقدار المختوم والأحكام الشّرعيّة المنوط به‏,‏ ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏صاع‏)‏‏.‏

م - المد‏:‏

25 - المُد بالضّمّ في اللغة‏:‏ من معانيه أنّه مكيال‏,‏ وهو رطلان‏,‏ أو رطل وثلث‏,‏ أو ملء كفّي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدّ يده بهما‏,‏ وبه سمّي مداً‏,‏ وجمعه أمداد‏,‏ ومِدَدَة كعنبة‏,‏ ومداد‏.‏

والمد في اصطلاح الفقهاء‏:‏ مكيال اتّفق الفقهاء على أنّه ربع صاعٍ‏.‏

واختلفوا في تقديره بالرّطل كاختلافهم في تقدير الصّاع بالرّطل‏,‏ فذهب الجمهور إلى أنّ المدّ رطل وثلث بالعراقيّ‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ المدّ رطلان بالعراقيّ‏.‏

هذا هو المد الشّرعي وهو الّذي ينصرف إليه اللّفظ عند الإطلاق‏,‏ وهنالك المد الشّامي وهو صاعان‏,‏ أي ثمانية أمدادٍ شرعيّةٍ‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وقد صرّح الشّارح في شرحه على الملتقى في باب زكاة الخارج بأنّ الرّطل الشّاميّ ستمائة درهمٍ‏,‏ وأنّ المدّ الشّاميّ صاعان‏.‏

ما يناط بالمدّ من الأحكام الشّرعيّة

26 - أكثر ما يناط بالمدّ من الأحكام الشّرعيّة مقدار ماء الوضوء ومقدار صدقة الفطر‏,‏ ومقدار النّفقة الزّوجيّة عند بعض الفقهاء‏.‏

أمّا الوضوء فقد ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تفيد أنّه كان يتوضّأ بالمدّ من الماء‏,‏ منها ما ورد عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتوضّأ بالمدّ ويغتسل بالصّاع»‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المدّ من الماء هو القدر المفضل الكافي للوضوء‏,‏ إلا أنّه ليس معياراً له لا تجوز مخالفته‏,‏ وعلى ذلك فإن اكتفى المتوضّئ بدونه أجزأه‏,‏ وإن لم يكتف به لزمه ما يكفيه‏.‏

وللتّفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏وضوء‏)‏‏.‏

وأمّا صدقة الفطر فقد اتّفق الفقهاء على أنّها صاع من أيّ صنفٍ من الأصناف الّتي تصح فيها صدقة الفطر‏,‏ سوى القمح‏,‏ والصّاع أربعة أمدادٍ باتّفاق الفقهاء‏.‏

أمّا القمح‏,‏ وكذلك دقيقه وسويقه‏,‏ فقد ذهب الجمهور إلى أنّ الواجب منها هو صاع أيضاً كسائر الأصناف الأخرى‏,‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الواجب منها هو نصف صاعٍ وهو مدّان‏.‏ والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏زكاة الفطر ف 11‏)‏‏.‏

أمّا النّفقة فقد قال النّووي يجب على موسرٍ لزوجته كلّ يومٍ مد طعامٍ وعلى معسرٍ مد ومتوسّطٍ مد ونصف‏,‏ وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏نفقة‏)‏‏.‏

ن - المُدْيُ‏:‏

27 - المدي في اللغة‏:‏ بضمّ الميم على وزن قفلٍ‏:‏ مكيال للشّام ومصر يسع تسعة عشر صاعاً‏,‏ وجمعه أمداء‏,‏ وهو غير المدّ‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ هو مكيال كان يستعمل قبل الإسلام في الشّام ومصر‏,‏ وقد ذهب أبو عبيدٍ إلى أنّه نيّف وأربعون رطلاً‏,‏ وهي أكثر من سبعة صيعانٍ ونصف الصّاع بقليل على وفق مذهب الجمهور في الصّاع‏,‏ وقال‏:‏ حدّثني ابن بكيرٍ أنّ عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذّهب أربعة دنانير وأرزاق المسلمين من الحنطة مديين وثلاثة أقساط زيتٍ وعلى أهل الورق أربعين درهماً وخمسة عشر صاعاً لكلّ إنسانٍ‏,‏ ولا أحفظ ما ذكر من الودك، فنظرت في حديث عمر فإذا هو عدل أربعين درهماً بأربعة دنانير‏.‏

وكذلك عدل مديين من طعامٍ بخمسة عشر صاعاً‏,‏ وجعلها موازيةً لهما‏,‏ فغايرت الأمداد والصّيعان وجمعت بينها‏,‏ ثمّ اعتبرتها بالوزن‏,‏ فوجدت المديين نيّفاً وثمانين رطلاً‏,‏ ووجدت خمسة عشر صاعاً ثمانين رطلاً‏.‏

وقد روي عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنّه أجرى للنّاس المديين والقسطين‏,‏ قال ابن الأثير‏:‏ يريد مديين من الطّعام وقسطين من الزّيت‏.‏

س - المكوك‏:‏

28 - المكوك في اللغة‏:‏ طاس يشرب به‏,‏ ومكيال يسع صاعاً ونصفاً أو نصف رطلٍ إلى ثماني أواقي‏,‏ أو نصف ويبةٍ‏,‏ أو ثلاث كيلجاتٍ‏,‏ وهو مذّكّر‏,‏ والجمع منه مكاكيك‏.‏ والمكوك في اصطلاح الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ هو صاع ونصف‏,‏ وقال أبو عبيدٍ‏:‏ هو صاعان ونصف‏.‏

ما يناط بالمكوك من أحكامٍ شرعيّةٍ

29 - لا ينيط الفقهاء بالمكوك أحكاماً شرعيّةً مباشرةً‏,‏ وربّما أورده بعضهم تبعاً لغيره من المكاييل أو المقادير الشّرعيّة‏,‏ من ذلك ما قاله أبو عبيدٍ‏:‏ فأمّا زكاة الأرضين فإنّها إذا كانت بهذا المكوك عشرين ومائةً من حنطةٍ أو شعيرٍ أو تمرٍ أو زبيبٍ وجبت فيها الزّكاة‏.‏‏.‏ وذلك لأنّ الزّكاة تجب في خمسة أوسقٍ‏,‏ والوسق ستون صاعاً‏,‏ فجميعها ثلاثمائة صاعٍ‏,‏ وهي عشرون ومائة مكوكٍ‏.‏

ع - الوسق‏:‏

30 - الوَسق في اللغة‏:‏ بفتح الواو‏:‏ حمل بعيرٍ‏,‏ والجمع وسوق‏,‏ مثل فلسٍ وفلوس‏,‏ وحكى بعضهم كسر الواو لغةً وجمعه أوساق مثل حملٍ وأحمالٍ‏,‏ قال الأزهري‏:‏ الوسق ستون صاعاً بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏,‏ ويجمع أيضاً على أوسقٍ‏.‏

والوَسق في اصطلاح الفقهاء‏,‏ مكيال هو حمل بعيرٍ‏,‏ وقد اتّفقوا على أنّه ستون صاعاً بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏,‏ إلا أنّهم اختلفوا في مقدار الصّاع على مذهبين فنتج عنه اختلافهم في مقدار الوسق‏.‏

‏(‏ر‏:‏ صاع ف 3‏)‏‏.‏

ما يناط بالوسق من الأحكام الشّرعيّة

31 - ذهب الجمهور إلى أنّ نصاب الزّكاة من الزروع خمسة أوسقٍ‏,‏ وخالف أبو حنيفة وقال‏:‏ تجب الزّكاة في القليل والكثير من الزروع‏,‏ وأنّه لا نصاب فيها‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وهو الصّحيح كما في التحفة‏.‏

وللتّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏زكاة ف 100‏)‏‏.‏

ف - الويبة‏:‏

32 - الويبة في اللغة‏:‏ مكيال يسع اثنين وعشرين‏,‏ أو أربعةً وعشرين مداً بمدّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو ثلاث كيلجاتٍ‏.‏

ونقل بعض المعاصرين عن المقدسيّ في أحسن التّقاسيم قوله‏:‏ الويبة هو مكيال مصري كان يعادل قديماً عشرة أمنانٍ‏,‏ كما نقل عن السيوطيّ في حسن المحاضرة قوله‏:‏ ذكر أنّ ويبة الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه ستّة أمدادٍ‏.‏

ثانياً‏:‏ الموازين

33 - الأوزان الّتي يستعملها الفقهاء في تقدير الأحكام الشّرعيّة كثيرة‏,‏ إلا أنّ المعيار الأهمّ للأوزان عند الفقهاء هو الدّرهم والدّينار والرّطل‏,‏ والأوزان الأخرى الّتي اعتمدها الفقهاء في بعض الأحكام أكثرها من أضعاف الدّرهم والدّينار أو من أجزائهما‏,‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

وقد سبق الكلام عن الدّرهم والدّينار في مصطلحي‏:‏ ‏(‏دراهم ودنانير‏)‏‏.‏

أ - الإستار‏:‏

34 - الإستار بالكسر في اللغة‏:‏ في العدد‏:‏ أربعة وفي الزّنة‏:‏ أربعة مثاقيل ونصف‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ والإستار بكسر الهمزة بالدّراهم ستّة ونصف‏,‏ وبالمثاقيل أربعة ونصف‏,‏ كذا في شرح درر البحار‏.‏

والإستار بالأرطال جزء من ثلاثين جزءاً من الرّطل المدنيّ‏,‏ وجزء من عشرين جزءاً من الرّطل العراقيّ‏.‏

ب - الأُوقيّة‏:‏

35 - الأُوقيّة بضمّ الهمزة وبالتّشديد في اللغة‏:‏ على وزن أفعولةٍ كالأعجوبة والأحدوثة مفرد‏,‏ والجمع أواقي بالتّشديد وبالتّخفيف للتّخفيف‏,‏ والوقيّة لغةً وهي بضمّ الواو‏,‏ وجرى على ألسنة النّاس بالفتح‏,‏ وهي لغة حكاها بعضهم‏,‏ وجمعها وقايا‏,‏ مثل عطيّةٍ وعطايا‏.‏ وزنتها عند علماء اللغة سبعة مثاقيل‏,‏ أو أربعون درهماً‏,‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وعند الفقهاء الأوقيّة أربعون درهماً‏.‏

ما يناط بالأوقيّة من الأحكام الشّرعيّة

36 - قليلاً ما يذكر الفقهاء الأوقيّة معياراً لحكم شرعيٍّ‏,‏ وربّما ذكروها على أنّها من مضاعفات الدّرهم أو المثقال أو الرّطل‏,‏ وقد ورد عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ «ما علمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقيّةً»‏.‏

وعن أبي سلمة قال‏:‏ «سألت عائشة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم كم كان صداق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقيّةً ونشاً، قالت‏:‏ أتدري ما النّش‏؟‏ قال‏:‏ قلت لا، قالت‏:‏ نصف أوقيّةٍ»‏.‏

قال أبو منصورٍ‏:‏ خمس أواقٍ مائتا درهمٍ‏.‏

وقال الحسن وأبو عبيدٍ‏:‏ الغنى ملك أوقيّةٍ‏,‏ وهي أربعون درهماً‏,‏ لما روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلىاله عليه وسلم‏:‏ «من سأل وله قيمة أوقيّةٍ فقد ألحف»‏.‏

ج - الحبّة‏:‏

37 - الحبّة في اللغة واحدة الحبّ‏,‏ وهو اسم جنسٍ للحنطة وغيرها ممّا يكون في السنبل والأكمام‏,‏ والجمع حبوب‏,‏ وحبّات وحباب‏,‏ وهي جزء من ثمانيةٍ وأربعين جزءاً من الدّرهم‏.‏

والفقهاء قليلاً ما يستعملون كلمة حبّةٍ من غير إضافةٍ‏,‏ وفي الغالب يضيفونها إلى الشّعير فيقولون‏:‏ حبّة الشّعير‏,‏ ويجعلونها معياراً لبعض المقادير الشّرعيّة كالدّرهم والقيراط‏,‏ فإذا أطلقوها فالمراد بها حبّة الشّعير في الغالب‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ صرّح الإمام السروجي في الغاية بقوله‏:‏ درهم مصر أربع وستون حبّةً‏,‏ وهو أكبر من درهم الزّكاة‏,‏ فالنّصاب منه مائة وثمانون وحبّتان‏.‏ ا هـ‏.‏

لكن نظر فيه صاحب الفتح بأنّه أصغر لا أكبر‏,‏ لأنّ درهم الزّكاة سبعون شعيرةً‏,‏ ودرهم مصر لا يزيد على أربعٍ وستّين شعيرةً‏.‏

وربّما أضاف الفقهاء الحبّة إلى القمح أو الخرنوب فقالوا عنها‏:‏ قمحة أو خرنوبة‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ كل خرنوبةٍ أربع شعيراتٍ أو أربع قمحاتٍ لأنّا اختبرنا الشّعيرة المتوسّطة مع القمحة المتوسّطة فوجدناهما متساويتين‏.‏

وحبّة الشّعير عند الإطلاق هي حبّة الشّعير المتوسّطة الّتي لم تقشّر بعد قطع ما دقّ من طرفيها‏,‏ وهي معيار للدّرهم والمثقال‏,‏ ولكنّ الفقهاء اختلفوا في تعيير الدّرهم والمثقال بها‏.‏

فذهب الجمهور إلى أنّ المثقال اثنتان وسبعون حبّةً‏,‏ والدّرهم خمسون حبّةً وخُمسا حبّةٍ‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ المثقال مائة حبّة شعيرٍ‏,‏ والدّرهم سبعون حبّةً‏.‏

ما يناط بالحبّة من الأحكام الشّرعيّة

38 - الفقهاء يجعلون الحبّة معياراً للدّرهم والدّينار والقيراط‏.‏

د - الرّطل‏:‏

39 - الرَِّطل في اللغة‏:‏ بفتح الرّاء وكسرها والكسر أشهر‏:‏ معيار يوزن به‏,‏ وهو مكيال أيضاً‏,‏ والرّطل البغدادي يزن اثنتي عشرة أوقيّةً‏.‏

وقد جرى الاختلاف في وزنه بالمثقال‏,‏ ومقتضى نصّ الفيروز آبادي أنّه / 480 / درهماً‏,‏ حيث قال‏:‏ الرّطل اثنتا عشرة أوقيّةً‏,‏ والأوقيّة أربعون درهماً‏,‏ وذهب الفيومي إلى أنّه مائة درهمٍ وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهمٍ‏.‏

وذلك مع اتّفاقهما على أنّ الرّطل يزن اثنتي عشرة أوقيّةً‏.‏

والرّطل في اصطلاح الفقهاء على نوعين‏:‏ رطل دمشقي ورطل بغدادي‏,‏ ويقال له عراقي‏,‏ والثّاني هو المقصود لدى الفقهاء‏,‏ وبه يتم تقدير الأحكام الشّرعيّة لديهم‏,‏ والرّطل البغدادي عند الحنفيّة مائة وثلاثون درهماً نقله ابن عابدين والكمال بن الهمام‏,‏ ونقل ابن عابدين في مكانٍ آخر أنّ الرّطل أقل من ذلك فقال‏:‏ كل رطلٍ مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهمٍ‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الرّطل - وهو البغدادي عند الإطلاق - مائة وثمانية وعشرون درهماً‏.‏

قال البنانيّ‏:‏ والرّطل مائة وثمانية وعشرون درهماً مكّياً‏,‏ وهو بالميزان الصّغير بفاس في وقتنا اثنتا عشرة أوقيّةً وربع أوقيّةٍ‏.‏

وعند الشّافعيّة قال المحلّي‏:‏ والرّطل البغدادي مائة وثلاثون درهماً فيما جزم به الرّافعي‏,‏ قال النّووي‏:‏ الأصح أنّ رطل بغداد مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباعٍ درهمٍ‏,‏ وقيل بلا أسباعٍ‏,‏ وقيل ثلاثون‏,‏ واللّه أعلم‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الرّطل العراقيّ مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهمٍ‏,‏ إلا أنّ ابن قدامة نصّ بعد ما ذكر فقال‏:‏ هكذا كان قديماً‏,‏ ثمّ إنّهم زادوا فيه مثقالاً فجعلوه واحداً وتسعين مثقالاً‏,‏ وكمل به مائة وثلاثون درهماً‏,‏ وقصدوا بهذه الزّيادة إزالة كسر الدّرهم‏,‏ والعمل على الأوّل‏.‏

أمّا الرّطل الدّمشقي فهو أكبر من رطل بغداد أو العراق‏,‏ وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الرّطل الدّمشقيّ ستمائة درهمٍ‏,‏ إلا أنّه لا يقدّر به شيء لدى الفقهاء إلا تبعاً للرّطل البغداديّ‏.‏

ما يناط بالرّطل من الأحكام الشّرعيّة

40 - يعتمد الفقهاء على الرّطل البغداديّ في تحديد الصّاع‏,‏ وقد اختلفوا في تحديد الصّاع بالرّطل على مذهبين‏:‏

فذهب الجمهور إلى أنّ الصّاع خمسة أرطالٍ وثلث‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الصّاع ثمانية أرطالٍ‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏صاع ف 7‏)‏‏.‏

ثمّ إنّ الفقهاء ينيطون بالرّطل من الأحكام الشّرعيّة ما يناط منها بالصّاع كمقدار صدقة الفطر‏,‏ ونصاب الزّكاة‏,‏ ومقدار ماء الوضوء‏,‏ وغير ذلك‏.‏

‏(‏ر‏:‏ صاع 8 - 9‏)‏‏.‏

هـ - الطَسّوج‏:‏

41 - الطَسّوج في اللغة‏:‏ بوزن سَفّودٍ هو‏:‏ النّاحية وربع دانقٍ‏,‏ مُعرّب‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏,‏ قال الكمال بن الهمام‏:‏ قال أبو عبيدٍ في كتاب الأموال‏:‏ ولم يزل المثقال في آباد الدّهر محدوداً لا يزيد ولا ينقص، والدّانق أربع طَسّوجاتٍ‏,‏ والطَسّوج حبّتان‏,‏ والحبّة شعيرتان‏.‏

و - القَفْلَة‏:‏

42 - من معاني القَفْلَة في اللغة‏:‏ الوازن من الدّراهم‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ اسم من أسماء الدّرهم العرفيّ في مكّة والمدينة وأرض الحجاز‏,‏ وهو في نظر بعض الفقهاء أصغر من الدّرهم الشّرعيّ‏,‏ وفي نظر بعضهم الآخر أكبر منه‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ قال بعض المحشّين‏:‏ الدّرهم الآن المعروف بمكّة والمدينة وأرض الحجاز وهو المسمّى بالقفلة على وزن تمرةٍ‏,‏ وهو ستّ عشرة خرنوبةً‏,‏ كل خرنوبةٍ أربع شعيراتٍ، وهو ينقص عن الدّرهم الشّرعيّ بستّ شعيراتٍ‏,‏ وقال ابن عابدين أيضاً‏:‏ ومقتضاه أنّ الدّرهم المتعارف أكبر من الشّرعيّ‏,‏ وبه صرّح الإمام السروجي في الغاية‏.‏

ز - القمحة‏:‏

43 - القمحة في اللغة‏:‏ هي حبّة القمح‏,‏ وهو البُر‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء المراد بها وزنها‏,‏ وهي معيار لما هو أكبر منها من الأوزان كالدّرهم والدّينار‏,‏ ووزنها مساوٍ لوزن حبّة الشّعير‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ لأنّا اختبرنا الشّعيرة المتوسّطة مع القمحة المتوسّطة فوجدناهما متساويتين‏,‏ ثمّ قال‏:‏ وهي ربع قيراطٍ‏.‏

ح - القنطار‏:‏

44 - القنطار في اللغة‏:‏ على وزن فنعالٍ معيار‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ ليس له وزن عند العرب‏,‏ وإنّما هو أربعة آلاف دينارٍ‏,‏ وقيل يكون مائة مَنٍّ‏,‏ ومائة رطلٍ‏,‏ ومائة مثقالٍ‏,‏ ومائة درهمٍ‏,‏ وقيل‏:‏ هو المال الكثير بعضه على بعضٍ‏,‏ وقيل‏:‏ هو أربعون أوقيّةً من ذهبٍ‏,‏ أو ألف ومئتا دينارٍ‏,‏ وقيل غير ذلك‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء قال القرطبي‏:‏ واختلف العلماء في تحرير حدّه كم هو على أقوالٍ عديدةٍ‏,‏ فروى أبي بن كعبٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «القنطار ألف أوقيّةٍ ومئتا أوقيّةٍ»‏,‏ وقال بذلك معاذ بن جبلٍ وعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهم‏,‏ قال ابن عطيّة‏:‏ وهو أصح الأقوال‏,‏ لكنّ القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقيّة‏.‏

ما يناط بالقنطار من الأحكام الشّرعيّة

45 - يذكر الفقهاء القنطار أحياناً لبيان الكثرة‏,‏ كما ذكره اللّه تعالى في كتابه الكريم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً‏}‏‏.‏

ط - القيراط‏:‏

46 - القيراط والقِراط بالكسر في اللغة‏:‏ مقدار صغير يختلف وزنه باختلاف البلدان‏,‏ ففي مكّة‏:‏ ربع سدس دينار‏,‏ وفي العراق‏:‏ نصف عشر دينارٍ‏,‏ وقال بعض الحسّاب‏:‏ القيراط في لغة اليونان حبّة خرنوبٍ‏,‏ وهو نصف دانقٍ‏,‏ والدّرهم عندهم اثنتا عشرة حبّةً‏,‏ والحسّاب يقسّمون الأشياء أربعةً وعشرين قيراطاً‏,‏ لأنّه أوّل عددٍ له ثمن وربع ونصف وثلث صحيحات من غير كسرٍ‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء كما هو في اللغة‏:‏ مقدار قليل من الأوزان‏,‏ وقد اختلف الفقهاء في مقداره اختلافاً يسيراً‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّ القيراط جزء من أربعة عشر جزءاً من الدّرهم‏,‏ أو جزء من عشرين جزءاً من الدّينار‏,‏ وهما متساويان‏,‏ وهو وزن خمس حبّات شعيرٍ أو قمحٍ‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ والدّينار عشرون قيراطاً‏,‏ والدّرهم أربعة عشر قيراطاً‏,‏ والقيراط خمس شعيراتٍ‏.‏

والقيراط عند المالكيّة أقل منه عند الحنفيّة‏,‏ قال الحطّاب‏:‏ فيكون وزن الدّرهم الشّرعيّ أربعة عشر قيراطاً وثلاثة أرباع قيراطٍ ونصف خمس قيراطٍ‏,‏ وهي خمسة عشر قيراطاً إلا ثلاثة أرباع خمس قيراطٍ‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ القيراط ثلاث حبّاتٍ من الشّعير‏,‏ والدّرهم ستّة عشر قيراطاً وأربعة أخماس قيراطٍ‏,‏ وقيل‏:‏ أربعة عشر قيراطاً‏.‏

والدّرهم خمسون حبّةً وخُمسا حبّةٍ من الشّعير‏.‏

ما يناط بالقيراط من الأحكام الشّرعيّة

47 - لا ينيط الفقهاء بالقيراط أحكاماً شرعيّةً‏,‏ وقد يجعلونه معياراً لبعض المقادير الشّرعيّة كالدّرهم والدّينار كما تقدّم‏.‏

ي - المثقال‏:‏

48 - مثقال الشّيء في اللغة‏:‏ ميزانه من مثله‏,‏ وهو مفرد يجمع على مثاقيل‏,‏ والمثقال درهم وثلاثة أسباعٍ درهمٍ‏,‏ وكل سبعة مثاقيل عشرة دراهم‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء المثقال وزن الدّينار من الذّهب‏,‏ قال الكمال بن الهمام‏:‏ والظّاهر أنّ المثقال اسم للمقدار المقدّر به‏,‏ والدّينار اسم للمقدّر به بقيد ذهبيّته‏,‏ وقال ابن عابدين بعدما أورد هذه العبارة عن الفتح‏:‏ وحاصله أنّ الدّينار اسم للقطعة من الذّهب المضروبة المقدّرة بالمثقال‏,‏ فاتّحادهما من حيث الوزن وجميع الأئمّة على ذلك أيضاً‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏دنانير ف 7 - 8‏)‏‏.‏

ك - المنّ‏:‏

49 - المن في اللغة‏:‏ ومثله المنا‏:‏ مكيال يكال به السّمن وغيره‏,‏ وقيل هو ميزان قدره رطلان‏,‏ وهو مفرد يجمع على أمنانٍ‏,‏ والمنا يجمع على أمناءٍ‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء قال الحنفيّة‏:‏ المن رطلان بغداديّان‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ المد والمن سواء كل منهما ربع صاعٍ رطلان بالعراقيّ‏.‏

وقد قسّم الشّافعيّة المنّ إلى نوعين‏,‏ منٍّ صغيرٍ ومنٍّ كبيرٍ‏,‏ أمّا المن الصّغير فهو رطلان بغداديّان‏,‏ وأمّا المن الكبير فهو ستمائة درهمٍ‏.‏

ما يناط به من الأحكام الشّرعيّة

50 - لا ينيط الفقهاء بالمنّ أحكاماً شرعيّةً مباشرةً‏,‏ ولكن يذكرونه معياراً لبعض المقادير الشّرعيّة الأخرى كالوسق والرّطل‏.‏

ل - النشّ‏:‏

51 - النّش في اللغة عشرون درهماً‏,‏ وهو نصف الأوقيّة وغيرها‏,‏ قال ابن الأعرابيّ‏,‏ ونش الدّرهم والرّغيف نصفه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

قال أبو سلمة رضي الله تعالى عنه‏:‏ «سألت عائشة عليه السلام كم كان صداق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقيّةً ونشاً، قالت‏:‏ أتدري ما النّش‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قالت‏:‏ نصف أوقيّةٍ، فتلك خمسمائة درهمٍ»‏.‏

م - النّواة‏:‏

52 - النّواة في اللغة‏:‏ مفرد يجمع على نوىً والنّواة بذرة التّمر‏,‏ والنّواة من العدد عشرون‏,‏ أو عشرة‏,‏ والأوقيّة من الذّهب‏,‏ وأربعة دنانير‏,‏ أو ما زنته خمسة دراهم‏,‏ وقيل غير ذلك‏.‏

واختلف في تقدير النّواة في اصطلاح الفقهاء للاختلاف في تفسير النّواة في حديث أنسٍ رضي الله تعالى عنه وهو‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة‏,‏ فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب‏,‏ قال‏:‏ بارك الله لك‏,‏ أو لم ولو بشاة»‏.‏

ثالثاً‏:‏ الأطوال والمساحات

اعتمد الفقهاء في قياس الطول والمساحة على عددٍ من المقاييس أهمّها مرتّباً على حروف الهجاء كما يلي‏:‏

أ - الإصبَع‏:‏

53 - الإصبع في اللغة‏:‏ مؤنّثة ويجوز فيها التّذكير والتّأنيث أشهر‏,‏ وفيها عشر لغاتٍ تثليث الهمزة مع تثليث الباء‏,‏ والعاشرة‏:‏ أصبوع وزان عصفورٍ‏,‏ والمشهور من لغاتها كسر الهمرة مع فتح الباء‏,‏ وهي واحدة الأصابع والأصابيع‏.‏

والإصبع في اصطلاح الفقهاء مقياس للطول يساوي عرض ستّ شعيراتٍ معتدلاتٍ بطن إحداها لظهر الأخرى والشّعيرة ست شعرات بغلٍ‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وهي - أي الإصبع - ست شعيراتٍ ظهر لبطن وهي - أي الشّعيرة - ست شعرات بغلٍ‏.‏

ما يناط بالإصبع من الأحكام الشّرعيّة

54 - لا ينيط الفقهاء بالإصبع من المساحات أياً من الأحكام الشّرعيّة ولكن يجعلونها معياراً لغيرها من المقادير الشّرعيّة كالقبضة والذّراع‏.‏

ب - الباع‏:‏

55 - الباع في اللغة قدر مدّ اليدين كالبوع ويضم‏,‏ وجمعه أبواع‏.‏

وقال أبو حاتمٍ‏:‏ هو مذّكّر يقال هذا باع‏,‏ وهو مسافة ما بين الكفّين إذا بسطتهما يميناً وشمالاً‏.‏

والباع في اصطلاح الفقهاء‏,‏ مختلف فيه بينهم‏,‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إنّه أربعة أذرعٍ‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الباع ذراعان‏.‏

ما يناط بالباع من الأحكام الشّرعيّة

56 - لا ينيط الفقهاء بالباع أحكاماً شرعيّةً‏,‏ ولكنّهم يذكرونه في أضعاف الذّراع‏,‏ وفي أجزاء الميل والفرسخ‏.‏

ج - البريد‏:‏

57 - من معاني البريد في اللغة‏:‏ أنّه مقدار من المسافة‏,‏ وهو اثنا عشر ميلاً وجمعه برد‏.‏

والبريد في اصطلاح الفقهاء أربعة فراسخ‏,‏ وفي قولٍ مرجوحٍ للمالكيّة هو فرسخان‏.‏

ما يناط بالبريد من الأحكام الشّرعيّة

58 - جمهور الفقهاء على أنّ السّفر الشّرعيّ المثبت للرخص يرتبط بالمسافة ومسافة السّفر هذه عندهم أربعة بردٍ‏.‏

د - الجريب‏:‏

59 - الجريب لغةً‏:‏ قال الفيومي‏:‏ الجريب الوادي‏,‏ ثمّ استعير للقطعة المتميّزة من الأرض‏,‏ فقيل‏:‏ فيها جريب‏,‏ وجمعها أجربة وجُربان بالضّمّ‏,‏ ويختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم كاختلافهم في مقدار الرّطل والكيل والذّراع‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وفي كتاب المساحة للسّموأل‏:‏ الجريب عشرة آلاف ذراعٍ‏,‏ وجريب الطّعام أربعة أقفزةٍ‏,‏ قاله الأزهري‏.‏

والجريب في اصطلاح الفقهاء مقدار من المساحة وعامّتهم على أنّ مساحته ثلاثة آلافٍ وستمائة ذراعٍ‏.‏

إلا أنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ إنّ الجريب ستون ذراعاً في ستّين ذراعاً بذراع كسرى‏,‏ وهو سبع قبضاتٍ‏,‏ والقبضة أربع أصابع‏,‏ قال الحصكفي‏:‏ وقيل‏:‏ المعتبر في الذّراع في كلّ بلدةٍ عرفهم‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الجريب ستون ذراعاً قي ستّين ذراعاً بالذّراع الهاشميّة‏,‏ وهي ذراع وثلث بذراع اليد‏,‏ والذّراع الهاشمي ست قبضاتٍ‏,‏ والقبضة أربع أصابع‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ الجريب هو ثلاثة آلاف ذراعٍ وستمائة ذراعٍ‏,‏ ولعلّ هذا في اصطلاح الفقهاء بناءً على أنّ القصبة ستّة أذرعٍ فقط‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّ الجريب عشر قصباتٍ في عشر قصباتٍ‏,‏ والقصبة ستّة أذرعٍ بذراع عمر رضي الله عنه‏,‏ المعروف بالذّراع الهاشميّة‏,‏ وهي ذراع وسط أي بيد الرّجل المتوسّط الطول‏,‏ وقبضة وإبهام قائمة‏,‏ فيكون الجريب ثلاثة آلاف ذراعٍ وستّمائة ذراعٍ مكسّراً‏.‏

ما يناط بالجريب من الأحكام الشّرعيّة

60 - أناط الفقهاء بالجريب من الأرض مقدار الخراج الموظّف‏,‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب في كلّ جريبٍ من الأرض صالحٍ للزّراعة في كلّ سنةٍ قفيز ودرهم ممّا يزرع فيها‏,‏ وفي جريب الرّطبة خمسة دراهم‏,‏ وفي جريب الكرم والنّخل المتّصل عشرة دراهم‏,‏ وما سوى ذلك من المزروعات يوضع عليها بحسب الطّاقة بما لا يزيد على نصف النّاتج‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ على كلّ جريبٍ من البرّ ثمانيةً وأربعين درهماً‏,‏ وعلى كلّ جريبٍ من الشّعير أربعةً وعشرين درهماً‏,‏ وعلى كلّ جريبٍ من التّمر ستّةً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الخراج الموظّف على الأرض في كلّ سنةٍ هو ما فرضه عثمان بن حنيفٍ‏,‏ وهو على كلّ جريب شعيرٍ درهمان‏,‏ وعلى كلّ جريب حنطةٍ أربعة دراهم‏,‏ وعلى كلّ جريب شجرٍ وقصب سكّرٍ ستّة دراهم‏,‏ وعلى كلّ جريب نخلٍ ثمانية دراهم‏,‏ وعلى كلّ جريب كرمٍ عشرة دراهم‏,‏ وقيل النّخل عشرة‏,‏ وعلى كلّ جريب زيتونٍ اثنا عشر درهماً‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ الواجب في كلّ سنةٍ على جريب الزّرع درهم وقفيز‏,‏ وعلى جريب الكرم عشرة دراهم‏,‏ وعلى كلّ جريب نخلٍ ثمانية دراهم‏,‏ وعلى كلّ جريب رطبةٍ ستّة دراهم‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏خراج ف 25 وما بعدها‏)‏‏.‏

هـ - الخطوة‏:‏

61 - الخطوة في اللغة‏:‏ بضمّ الخاء وفتحها ما بين القدمين عند المشي‏,‏ والمفتوح يجمع على خَطواتٍ كشَهوات‏,‏ والمضموم يجمع على خُطىً وخُطواتٍ كغُرف وغُرفاتٍ‏.‏

والخطوة في اصطلاح الفقهاء جزء من أربعة آلاف جزءٍ من الميل‏,‏ فقد نصّ الشّافعيّة‏,‏ وهو قول عند الحنفيّة على أنّ الميل أربعة آلاف خطوةٍ‏,‏ كما نصّ الشّافعيّة على أنّ الخطوة ثلاثة أقدامٍ‏.‏

الأحكام الشّرعيّة المنوطة بالخطوة

62 - لا ينيط الفقهاء بالخطوة أحكاماً شرعيّةً‏,‏ وربّما ذكروها عرضاً في بعض الأحكام‏,‏ من ذلك ما ذكره ابن قدامة حيث قال‏:‏ قال القاضي‏:‏ لو خرج إلى ضيعةٍ له ففارق البنيان والمنازل ولو بخمسين خطوةٍ جاز له التّيمم والصّلاة على الرّاحلة‏.‏

و - الذّراع‏:‏

63 - الذّراع في اللغة‏:‏ اليد من كلّ حيوانٍ‏,‏ لكنّها في الإنسان من المرفق إلى أطراف الأصابع‏,‏ أو من المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى‏,‏ ويجري بها القياس‏,‏ وهي ذراع الإنسان المتوسّط‏,‏ وقدّرت بستّ قبضاتٍ معتدلاتٍ‏,‏ وتسمّى ذراع العامّة‏,‏ وهي مؤنّثة وبعض العرب يذكّرها‏.‏

والذّراع في اصطلاح الفقهاء مقياس للطول‏,‏ ولها أنواع مختلفة الطول‏,‏ وقد ذكر الماورديّ لها سبعة أنواعٍ‏,‏ فقال‏:‏ وأمّا الذّراع فالأذرع سبع‏,‏ أقصرها القاضية‏,‏ ثمّ اليوسفيّة‏,‏ ثمّ السّوداء‏,‏ ثمّ الهاشميّة الصغرى وهي البلاليّة‏,‏ ثمّ الهاشميّة الكبرى وهي الزّياديّة‏,‏ ثمّ العمريّة‏,‏ ثمّ الميزانيّة‏,‏ وذلك بحسب اسم واضعها‏.‏

وقد بيّن ذلك الماورديّ فقال‏:‏ فأمّا القاضية‏,‏ وتسمّى ذراع الدور فهي أقل من ذراع السّوداء بإصبع وثلثي إصبعٍ‏,‏ وأوّل من وضعها ابن أبي ليلى القاضي‏,‏ وبها يتعامل أهل كلواذي‏.‏

وأمّا اليوسفيّة‏,‏ وهي الّتي تذرّع بها القضاة الدور بمدينة السّلام‏,‏ فهي أقل من الذّراع السّوداء‏,‏ بثلثي إصبعٍ‏,‏ وأوّل من وضعها أبو يوسف القاضي‏.‏

وأمّا الذّراع السّوداء فهي أطول من ذراع الدور بإصبع وثلثي إصبعٍ‏,‏ وأوّل من وضعها الرّشيد قدرها بذراع خادمٍ أسود كان على رأسه‏,‏ وهي الّتي يتعامل بها النّاس في ذراع البزّ‏,‏ والتّجارة‏,‏ والأبنية‏,‏ وقياس نيل مصر‏.‏

وأمّا الذّراع الهاشميّة الصغرى وهي البلاليّة فهي أطول من الذّراع السّوداء بإصبعين وثلثي إصبعٍ‏,‏ وأوّل من أحدثها بلال بن أبي بردة‏,‏ وذكر أنّها ذراع جدّه أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه‏,‏ وهي أنقص من الزّياديّة بثلاثة أرباع عشرٍ‏,‏ وبها يتعامل النّاس بالبصرة والكوفة‏.‏

وأمّا الهاشميّة الكبرى وهي ذراع الملك‏,‏ وأوّل من نقلها إلى الهاشميّة المنصور‏,‏ فهي أطول من الذّراع السّوداء بخمس أصابع وثلثي إصبعٍ‏,‏ فتكون ذراعاً وثمناً وعشراً بالسّوداء‏,‏ وتنقص عنها الهاشميّة الصغرى بثلاثة أرباع عشرٍ‏,‏ وسمّيت زياديّةً لأنّ زياداً مسح بها أرض السّواد‏,‏ وهي الّتي يزرع بها أهل الأهواز‏.‏

وأمّا الذّراع العمريّة‏,‏ فهي ذراع عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه الّتي مسح بها أرض السّواد‏,‏ وقال موسى بن طلحة‏:‏ رأيت ذراع عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه الّتي مسح بها أرض السّواد‏,‏ وهي ذراع وقبضة وإبهام قائمة‏,‏ قال الحكم بن عيينة‏:‏ أنّ عمر رضي الله تعالى عنه عمد إلى أطولها ذراعاً وأقصرها وأوسطها‏,‏ فجمع منها ثلاثةً وأخذ الثلث منها‏,‏ وزاد عليه قبضةً وإبهاماً قائمةً ثمّ ختم طرفيها بالرّصاص وبعث بذلك إلى حذيفة وعثمان بن حنيفٍ حتّى مسحا بها السّواد‏,‏ وكان أوّل من مسح بها بعده عمر بن هبيرة‏.‏

أمّا الذّراع الميزانيّة‏,‏ فتكون بالذّراع السّوداء ذراعين وثلثي ذراعٍ وثلثي إصبعٍ‏,‏ وأوّل من وضعها المأمون‏,‏ وهي الّتي يتعامل النّاس فيها في ذرع البرائد والمساكن والأسواق وكراء الأنهار والحفائر‏.‏

64 - وقد اختلف الفقهاء في الذّراع الّتي تقدّر بها المقدّرات الشّرعيّة على أقوالٍ كما يلي‏:‏ اختلف الحنفيّة في الذّراع الشّرعيّة‏,‏ والمختار عندهم ذراع الكرباس‏,‏ وعليه الفتوى‏,‏ وهو سبع قبضاتٍ فقط‏,‏ أي بلا إصبعٍ قائمةٍ‏,‏ وهذا ما في الولوالجيّة‏,‏ وفي البحر أنّ في كثيرٍ من الكتب أنّه ست قبضاتٍ ليس فوق كلّ قبضةٍ إصبع قائمة‏,‏ فهو أربع وعشرون إصبعاً‏,‏ والمراد بالقبضة أربع أصابع مضمومةٍ‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وهو قريب من ذراع اليد‏,‏ لأنّه ست قبضاتٍ وشيء‏,‏ وذلك شبران‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ نقلاً عن المحيط والكافي‏:‏ أنّه يعتبر في كلّ زمانٍ ومكانٍ ذراعهم قال في النّهر‏:‏ وهو الأنسب‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الذّراع ست وثلاثون إصبعاً‏,‏ قال التّسولي‏:‏ والذّراع ما بين طرفي المرفق ورأس الإصبع الوسطى‏,‏ كل ذراعٍ ست وثلاثون إصبعاً‏,‏ وفي قولٍ آخر لابن حبيبٍ مؤدّاه أنّ الذّراع أربع وعشرون إصبعاً‏,‏ وقال التّسولي‏:‏ وقال ابن حبيبٍ‏:‏ والذّراع شبران‏,‏ والشّبر اثنا عشر أصبعاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الذّراع أربعة وعشرون إصبعاً‏,‏ قال الشّربيني الخطيب‏:‏ والذّراع أربعة وعشرون إصبعاً معترضاتٍ‏.‏

الأحكام الشّرعيّة المنوطة بالذّراع

65 - استعمل الحنفيّة الذّراع في مواضع منها مقدار الماء الكثير‏,‏ فقد ورد عنهم أنّ الكثير ما كان عشراً في عشرٍ‏,‏ أي عشرة أذرعٍ في عشرة أذرعٍ‏,‏ وبه أفتى المتأخّرون الأعلام‏.‏

ومنها في مقدار ابتعاد المرأة عن الرّجل في صلاة الجماعة إذا اقتديا بإمام واحدٍ، قال الحصكفي‏:‏ وإذا حاذته امرأة ولو أمة مشتهاة ولا حائل بينهما أقله مقدار ذراعٍ في صلاةٍ مشتركةٍ فسدت صلاته لو مكلّفاً‏,‏ وإلا لا‏.‏

ز - الشّبر‏:‏

66 - الشّبر في اللغة‏:‏ ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتّفريج المعتاد‏,‏ وهو مفرد يجمع على أشبارٍ‏,‏ وهو مذّكّر‏.‏

والشّبر في اصطلاح الفقهاء نصف ذراعٍ‏,‏ اثنا عشر إصبعاً‏,‏ قال ابن عابدين في الكلام عن الذّراع‏:‏ وهو قريب من ذراع اليد لأنّه ست قبضاتٍ وشيء‏,‏ وذلك شبران‏.‏

وقال التّسولي‏:‏ والذّراع شبران‏,‏ والشّبر اثنا عشر إصبعاً‏.‏

ما يناط بالشّبر من الأحكام الشّرعيّة

67 - ورد تقدير بعض الأحكام الشّرعيّة بالشّبر مثل‏:‏ تقدير تسنيم القبر بالشّبر‏.‏

ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏قبر ف 12‏,‏ وتسنيم ف 2‏)‏‏.‏

وإسبال ثوب المرأة شبراً أو ذراعاً‏.‏

ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏إسبال ف 4‏)‏‏.‏

وتقدير عمق الماء الرّاكد - إذا كان عشراً بعشر - بذراع أو شبرٍ في قولٍ عند الحنفيّة‏,‏ والصّحيح عندهم أن يكون بحال لا تنكشف أرضه بالغرف منه‏.‏

ح - الشّعْرة‏:‏

68 - الشّعر في اللغة‏:‏ بسكون العين وفتحها نبتة الجسم ممّا ليس بصوف ولا وبرٍ‏,‏ وبالسكون يجمع على شعورٍ‏,‏ وبالفتح على أشعارٍ وهو من الإنسان وغيره‏,‏ وهو مذّكّر الواحدة منه شعرة‏,‏ وإنّما جمع الشّعر تشبيهاً لاسم الجنس بالمفرد‏.‏

والشّعرة في اصطلاح الفقهاء عند الإطلاق هي شعرة البرذون خاصّةً وهو البغل‏,‏ وهي في المقياس من أجزاء الإصبع والذّراع عندهم‏,‏ ومقدارها سدس عرض شعيرةٍ بالاتّفاق‏.‏

الأحكام الشّرعيّة المنوط بالشّعرة

69 - لا ينيط الفقهاء بالشّعرة أحكاماً شرعيّةً مباشرةً‏,‏ ولكنّهم يذكرون الشّعرة معياراً لغيرها من الأطوال كالذّراع والإصبع والشّعيرة‏.‏

ط - الشّعيرة‏:‏

70 - من معاني الشّعيرة في اللغة‏:‏ أنّها واحدة الشّعير‏,‏ وهو نبات عشبي حبّي شتوي من الفصليّة النّجيليّة وهو دون البرّ في الغذاء‏.‏

والشّعيرة في اصطلاح الفقهاء في المقادير الشّرعيّة‏:‏ حبّة الشّعير‏,‏ وهي معيار للأطوال من حيث عرضها‏,‏ ومعيار للأوزان من حيث وزنها وثقلها‏.‏

وعرض الشّعيرة المتوسّطة - هي المرادة هنا - بطن لظهر مقياس للإصبع‏,‏ وهو مقدّر لدى الفقهاء بعرض ست شعراتٍ من شعر البرذون - البغل -‏.‏

والشّعيرة وهي معيار للدّرهم والمثقال والقيراط‏,‏ والمراد الشّعيرة المتوسّطة الّتي قطع رأساها‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ لكنّ المعتبر في قيراط الدّرهم الشّرعيّ خمس حبّاتٍ بخلاف قيراط الدّرهم العرفيّ‏,‏ وقال‏:‏ لأنّ درهم الزّكاة سبعون شعيرةً‏,‏ ثمّ قال‏:‏ كل خرنوبةٍ أربع شعيراتٍ أو أربع قمحاتٍ‏,‏ لأنّا اختبرنا الشّعيرة المتوسّطة مع القمحة المتوسّطة فوجدناهما متساويتين‏,‏ ثمّ قال‏:‏ قيراط خمس شعيراتٍ‏.‏

وقال الشّربيني الخطيب‏:‏ والمثقال لم يتغيّر جاهليّةً ولا إسلاماً‏,‏ وهو اثنان وسبعون حبّةً‏,‏ وهي شعيرة معتدلة لم تقشّر وقطع من طرفيها ما دقّ وطال، فالدّرهم خمسون حبّةً وخُمسا حبّةٍ‏.‏

ما يناط بالشّعيرة من الأحكام الشّرعيّة

71 - لا ينيط الفقهاء بالشّعيرة أحكاماً شرعيّةً ولكنّهم يجعلونها معياراً لأضعافها من الأوزان والأطوال كما تقدّم‏,‏ ثمّ هم يذكرون الشّعير من حيث هو مادّة غذائيّة ذات قيمةٍ ماليّةٍ في زكاة الزروع‏,‏ وفي صدقة الفطر‏,‏ وفي النّفقة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏زكاة ف 97‏,‏ وزكاة الفطر ف 12 وربا ف 10 وما بعدها‏,‏ ونفقة‏)‏‏.‏

ي - العَشير‏:‏

72 - العشير في اللغة‏:‏ العشر وكذلك المعشار والعشر جزء من عشرة أجزاءٍ وقيل‏:‏ إنّ المعشار عشر العشير‏,‏ والعشير عشر العشر‏.‏

والعشير في اصطلاح الفقهاء ما مساحته قصبة في قصبةٍ‏,‏ قال الماورديّ‏:‏ والعشير قصبة في قصبةٍ‏,‏ والقصبة ستّة أذرعٍ‏,‏ والعشير ستّة وثلاثون ذراعاً‏,‏ وهو عشر القفيز‏.‏

ما يناط بالعشير من الأحكام الشّرعيّة

73 - لا ينيط الفقهاء بالعشير أحكاماً شرعيّةً مباشرةً‏,‏ ولكنّهم يذكرونه أحياناً بين أضعاف الذّراع والقصبة‏,‏ وأجزاء الجريب والقفيز‏.‏

ك - الغلوة‏:‏

74 - الغلوة في اللغة‏:‏ رمية سهمٍ أبعد ما يقدر عليه‏,‏ وقيل‏:‏ هي قدر ثلاثمائة ذراعٍ إلى أربعمائةٍ‏,‏ وجمعها غلوات‏,‏ أو هي جزء من خمسةٍ وعشرين جزءاً من الفرسخ‏.‏

وقد اختلفت أقوال الفقهاء في مقدار الغلوة فقيل‏:‏ هي ثلاثمائة ذراعٍ‏,‏ وقيل‏:‏ ثلاثمائةٍ إلى أربعمائة خطوةٍ‏,‏ وقيل‏:‏ هي رمية سهمٍ دون تحديدٍ دقيقٍ بشيء مقدّرٍ‏,‏ قال ابن عابدين نقلاً عن البحر الرّائق عن المجتبى‏:‏ هي ثلاثمائة ذراعٍ إلى أربعمائةٍ هو الأصح‏.‏

ما يناط بالغلوة من أحكامٍ

75 - قليلاً ما يذكر الفقهاء الغلوة في تقديرهم للأحكام الشّرعيّة‏,‏ وقد ذكر بعضهم تقدير البعد الّذي يجب على المتيمّم طلب الماء منه لصحّة تيممه بأنّه قدر غلوةٍ‏,‏ قال الحصكفي‏:‏ ويجب أن يفترض طلبه ولو برسوله - أي الماء لصحّة التّيمم عند عدمه - قدر غلوةٍ‏.‏ وقال النّووي‏:‏ فإن احتاج إلى ترددٍ - أي المتيمّم عند طلبه للماء - تردّد قدر نظره‏,‏ قال الشّربيني تعليقاً على ذلك‏:‏ قدر نظره أي في المستوى من الأرض‏,‏ وفي الشّرح الصّغير بغلوة سهمٍ‏,‏ أي غاية رميةٍ‏.‏

وقد ذكر الحصكفي الغلوة لتقدير بعد الفناء عن البنيان الّذي يجب على المرء مغادرته ليعدّ مسافراً‏,‏ فقال‏:‏ وفي الخانية‏:‏ إن كان بين الفناء والمصر أقل من غلوةٍ وليس بينهما مزرعة يشترط مجاوزته وإلا فلا‏.‏

ل - الفرسخ‏:‏

76 - الفرسخ في اللغة‏:‏ ثلاثة أميالٍ بالهاشميّ‏,‏ أو خمسة وعشرون غلوةً‏,‏ أو اثنا عشر ألف ذراعٍ أو عشرة آلاف ذراعٍ‏.‏

والفرسخ في اصطلاح الفقهاء ثلاثة أميالٍ‏.‏

ما يناط بالفرسخ من الأحكام الشّرعيّة

77 - قدّر جمهور الفقهاء بالفرسخ مسافة السّفر المثبت للرخص الشّرعيّة كالفطر في رمضان‏,‏ وقصر الصّلاة‏.‏

وذكروا أنّ مسافة السّفر هذه / 16 / ستّة عشر فرسخاً، وتساوي / 48 / ثمانيةً وأربعين ميلاً‏.‏

وخالف الحنفيّة وقالوا‏:‏ إنّ مسافة القصر تقدّر بالمراحل لا بالفراسخ‏,‏ قال الحصكفي‏:‏ ولا اعتبار بالفراسخ على المذهب‏,‏ لأنّ الفراسخ تختلف باختلاف الطّريق في السّهل والجبل والبرّ والبحر بخلاف المراحل‏.‏

م - القبضة‏:‏

78 - القبضة في اللغة‏:‏ ما أخذت بجمع كفّك كلّه‏,‏ فإذا كان بأصابعك قهي القبصة‏,‏ بالصّاد المهملة والقبضة أربع أصابع‏.‏ وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ القبضة أربع أصابع من أصابع يد الإنسان المعتدلة‏,‏ وهي من أجزاء الذّراع‏,‏ ومن أضعاف الإصبع‏,‏ قال ابن عابدين نقلاً عن نوحٍ أفندي‏:‏ والمراد بالقبضة أربع أصابع مضمومةٍ‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ وهو - أي الذّراع - قريب من ذراع اليد لأنّه ست قبضاتٍ وشيء‏,‏ وذلك شبران‏.‏

ما يناط بالقبضة من أحكامٍ

79 - لا يذكر الفقهاء كثيراً القبضة في تقدير الأحكام الشّرعيّة ولكنّهم يذكرونها في تقدير أضعافها بها‏,‏ وفي حساب أجزائها‏,‏ كالذّراع والإصبع‏,‏ وربّما ذكرها بعضهم عرضاً في بعض الأحكام‏,‏ من ذلك ما يجب في كفّارة مخالفة أحكام الإحرام للحاجّ‏,‏ فقد قال الحصكفي‏:‏ وإن طيّب أقلّ من عضوٍ أو ستر رأسه أو لبس أقلّ من يومٍ تصدّق بنصف صاعٍ‏,‏ وفي الخزانة في السّاعة نصف صاعٍ‏,‏ وفيما دونها قبضة‏,‏ أي قبضة من طعامٍ يتصدّق بها‏.‏

ق - القدم‏:‏

80 - القدم في الإنسان ما يطأ الأرض من الرّجل‏,‏ وفوقها السّاق‏,‏ وبينهما المفصل المسمّى الرسغ أو الكعب‏,‏ والقدم مؤنّثة‏,‏ وهي مفرد يجمع على أقدامٍ‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏,‏ إلا أنّ الفقهاء قد يستعملون القدم وحدةً لقياس المسافة‏,‏ ويجعلونها من أجزاء الذّراع والميل‏,‏ قال الشّربيني الخطيب‏:‏ والقدمان ذراع‏,‏ وقال المقدسي‏:‏ والميل اثنا عشر ألف قدمٍ‏.‏